بين الصرف البذخي والحُكم الفيدرالي!

الآن وقد بدأت (ثورة) إعادة النظر في الصرف البذخي من خلال (تشذيب وتهذيب) الصرف على العمل الدبلوماسي بعد ما يقرب من 30) عاماً من حكم الإنقاذ، لا نملك غير أن نقول أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي ولكن!

نعم، ولكن هل نسلم بـ(خيرية) وسلامة الحملة على الصرف البذخي حتى لو اقتصرت على التدابير المتخذة حيال وزارة الخارجية أم نقرن ذلك بمطلوبات أخرى أهم وأكبر وأولى بأن يطولها البتر على مستوى الدولة كلها وليس مجرد التشذيب الذي اختصت به الخارجية دون غيرها؟!

كمثال فقط على الفريضة الغائبة التي نتغافل في غمرة انشغالنا بنافلة الخارجية، أقول إن صوتنا قد بح ونحن نتحدث عن الحكم الفيدرالي الذي أفقر البلاد ومزق وحدتها الوطنية وأتعب العباد وعطل التنمية وتسبب في التخلف الذي يعاني منه السودان مقارنة بدول أخرى ارتقت خلال عقدين من الزمان إلى مصاف الدول العظمى.

أعلم أن إلغاء النظام الفيدرالي بشكله الحالي دفعة واحدة بات أمراً صعباً للغاية إن لم يكن مستحيلاً بالنظر إلى كلفته السياسية الباهظة، ولكن تخفيف عبئه من خلال بعض القرارات الجريئة أمر ميسور لا يحتاج إلا لشيء من الحزم والعزم.

بربكم ماذا يوفر لنا إلغاء بعض السفارات والملحقيات بالمقارنة بما يوفره إلغاء أكثر من مئة محلية تستنزف ربما أكثر من 25% من موازنة الدولة؟!

أود أن أسال: لماذا تُحكم الخرطوم بمواطنيها وأجانبها الذين تجاوزوا السبعة ملايين بسبع محليات فقط، بينما تعج الولايات الأخرى بعدد كبير يتجاوز في بعضها العشرين محلية؟!

أليس المحلية تتكون من حكومة بها مدير تنفيذي وإدارات كثيرة تضم معظم الخدمات التي توفر للجمهور على مستوى المحلية بما في ذلك تعليم الأساس والشرطة والأمن والأراضي والمياه وغير ذلك؟

كم عدد وكلفة العربات والآليات الحكومية التي تتوافر في مقر المحلية بما في ذلك التي يستخدمها المعتمد والمدير التنفيذي ومديرو الإدارات أو التي تستخدم في توفير خدمات المياه والأراضي والشرطة والأمن بل كم كلفة الوقود لهذه العربات والمركبات والمكاتب والخدمات!؟

إذا كان ذلك هو الصرف على محلية واحدة فكم تبلغ كلفة أكثر من مئة محلية يمكن أن تُلغى بقرار واحد من رئيس الجمهورية يحدد لكل ولاية سبع محليات كحد أقصى؟!

لم أتحدّث عن كلفة (18) ولاية كان من الممكن أن تقلص إلى ستة أقاليم أسوة بما وضعه دهاقنة الإدارة البريطانيون أيام الاستعمار البريطاني الذي أدار تلك الأقاليم بنظام حكم تولى فيه ضباط المجالس المحلية العبء الإداري على مستوى السودان بكفاءة عالية.

ظللت أقول إننا (طبزنا) أعيننا بأيدينا حين أقدمنا على الحكم الفيدرالي الحالي الذي كان عبئُه الاقتصادي عظيماً وكان عبئُه السياسي والوطني المتمثل في تمزيقه لوحدة الوطن الذي قُسم على أسس قبلية وجهوية، أعظم وأكثر خطرًا فقد ارتكبت الإنقاذ أكبر أخطائها وللأسف فقد ساقها إليه شيطان رجيم جعلها تقفز في الهواء لتهوي في نفق مظلم مليء بكل أنواع الثعابين والعقارب!

حطمنا بقرارات غريبة كل ما يمكن أن يوحد البلاد وينشئ هوية وطنية تجمع شتاتها القبلي والجهوي، وحتى مدارسنا القومية مثل حنتوب وخور طقت ووادي سيدنا أغلقناها، فإذا بالنخب التي كانت تتساكن في داخلية تضم إنسان الشرق والغرب والوسط تتباعد بمدارس جغرافية لتنشأ بعد ذلك حركات قبلية شيطانية تؤجّج وتعزز تلك الانتماءات الصغرى على حساب الهوية الوطنية الجامعة.

من تُراه يعيد عقارب الساعة إلى الوراء ويُصحح تلك الأخطاء الكارثية أسوة بما حدث عندما ألغي نظام البكور الذي اتخذ في لحظة غفلة كتلك التي ساقتنا لابتداع الحكم الفيدرالي الحالي الذي مزَّقنا إربا؟!

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة

Exit mobile version