النور الجيلاني: صحو الذكرى المنسية ..!!

لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي حاورت فيه مصطفى سيد أحمد في نهاية الثمانينات وضمن المهمة الصحفية سألته إن كان هناك فنان سوداني يمكن تقديم تجربته المتميزة للعالم فأخذ نفسا طويلا ثم قال لي إنه النور الجيلاني. وهذا الحوار منشور، ويقبع في مكان ما في دار الوثائق. على أن الذي جعلني أشغل نفسي أكثر هو أسباب اختيار مصطفى بذائقته المميزة للنور، لا أحد خلافه. ذلك الحكم نبهني إليه، وعدت أعيد الاستماع لغنائه بكثير من التحقق. وكان الحظ أن كنا في بعثة ثقافية إلى بورتسودان أوائل التسعينات. وقد عزمنا على المشاركة في حفل رأس السنة في بورتسودان لعام 1991، فحضرت حفلا للنور. كان الطقس جميلا، والحضور متميزا، وقد غنى النور، وانداح في الأداء بشكل لم أره قد كرره في حفلاته الجماهيرية لاحقا. ربما السبب يعود إلى هبوب نسائم البحر التي تهفهف في المكان، وأريحية المناسبة، وشفافية جمهور الثغر. ولكن المهم أن النور تجلى في ذلك اليوم، ومنذ ذلك الوقت ارتبط سماعي المتواصل لأعماله التي كتبها الشاعر جمال عبد الرحيم، خصوصا صحو الذكرى المنسية، فضلا عن أغانيه الأخرى.

حين استهل النور الجيلاني غناءه صعب على الإعلاميين تصنيفه، واحتاروا في أي منزلة يضعونه ضمن أشكال الغناء. ولكنه لم يكن مشغولا سوى بالبحث عن ذاته الفنية، واختبار محاولاتها في التبديع. يقترب غناؤه من الضرب الشعبي، وأحيانا أقرب إلى الجاز، وفي ملامحه اللحنية يكون أقرب إلى الغناء الحديث مثلما جرت التسمية. من ناحية أوركستراه كان يعتمد بشكل أساسي على مندلين سليمان زين العابدين، وأورغ، وجيتار، بجانب آلتي إيقاع، فضلا عن كورس قوامه أربعة أفراد. معهم يتداخل صوته ثم يختفي عنهم، ويختفون. وأحيانا عند وصلة الكورس يهمهم الفنان بآهاته، ويصدر غمغمات نائحة، ليكسب الأداء جمالا فوق جمال. ضف إلى ذلك أن أداءه المتميز، ومعايشته الفارقة لكلمات النص تأخذ من كل الأصناف الأدائية لللغناء. ولهذا كان عصيا القول إنه يتبع إلى مدرسة واحدة من مدارس الغناء. ولعل النور نفسه لم يكن مهتما بتصنيفات النقاد التي أحيانا تصر على قولبة المبدع ضمن إطار فني محدد. ولكن، على كل حال، ولد النور ليغدو فنانا بمعنى الكلمة، ولا يمكن أن يكون إلا فنانا عرف مكامن قدراته الصوتية، واللحنية، والأدائية. فالمهم هو أن يغني، ويطرب المستمعين، كيفما اتفق له. وعدم التزام النور بنهج غنائي محدد هو الذي منحه قيمته، ووضعت لونيته بشكلها المتفرد كملمح من انطلاقات الروح الفنية الحقيقية التي لا تحددها سياجات. فالمبدع الحري بالتفرد هو الذي يشق طريقا إبداعيا لم يعهده الناس. وهكذا كان النور يعبر عن تلك الروح، ولا يستنسخ ما يرضي الجمهور.

-2-
ولدى صاحب “كدراوية” شفافية عالية تجاه الأشياء كل الأشياء. فإن لاقيته لأول مرة لهفك برقة عالية في التعامل، وإن أحبك قبلك في جبينك، وتلك عادته التي لا تماثلها إلا رقة الشاعر إدريس جماع. أما إذا رأى الأطفال احضتنهم، ولذلك أوفى نحوهم بـ”خواطر فيل”، وهي رقة فاقت لتمتد إلى ربوة الحيوان. إذ تمتلئ تضاريس القصيدة بالرفق والحنو بالفيل الحزين الذي تم اجتثاثه من وطنه ليُحبس في قفص ليتلذذ برؤيته بنو البشر، حينا يحصبونه بالحجارة، وحينا آخر بالبرتقال الفاسد. أما إذا تزمجر الفيل رافضا الإسر صوب نحوه السجان طلقة أردته قتيلا. لا بد أن النور فهم معنى الحرية بشكلها المطلق وعبر عن حقوق الحيوان. وربما وجد جيلنا في الأغنية حين قدمها النور عبر عنوان لإحدى إلبوماته مزجا من الترميز السياسي المعارض. فالنور من ناحية ممتلئ بالأفق السياسي منذ أن كان طالبا، وكان لا يترك ندوة سياسية لحزب الشعب الديموقراطي. وربما أراد بتلك الأغنية أن يعبر بشفافية عن حزنه لحال البلد المأسور، وقد قالها مرة في التلفزيون، إذ أباح أنه يجد نفسه في الغناء الحزين، معللا أن حال المواطن لا تسره. وبخلاف الفيل فإن للعصفور الذي يتخذه المبدعين رمزا للحزن اهتماما لدى النور:

كيف نلوم عصفور صغير
مرة يقاسى الرياح
مرة تلقاهو يغنى
فوق فريعو مع الصباح
مرة فى وادى المحنة
ومرة فى أبعد بقاع
طاوى حريتو فى جناحو
عمرو ماملا الرواح

عبر هذه المميزات الإنسانية التي أساسها الثراء في حزن فؤاده قدم ملحن “مدلينا” بعضا من أجمل الأغنيات التي عبرت عن مرحلة السبعينات التي مثلت قمة نضوج غنائه. كما أن هذه المرحلة كانت بحاجة إلى جيل النور بحساسيته الفائقة العارفة لحاجة الناس إلى العاطفة فجاءت تجارب جيل السبعينات الذي ينتمي إليه معبرة عن قوة الشجن، وبصيص من الحزن، وقدر من الفرح. ورغم أنه بدأ في نهاية الستينات بتقليد الفنانين أمثال سيد خليفة، وخضر بشير، إلا أن قمة عطاء النور تبلور في السبعينات، والثمانينات، والتسعينات. وقد كان يمثل حضورا في هذه العقود وسط عمالقة الغناء. وعند وفاة أبيه الروحي أخذه الحزن كثيرا ثم عاد ليواصل الغناء. فغياب خضر بشيرألقى بظلال تأثيره عليه، وعبره أحب المريخ، وصيد السمك في بحر شمبات. وهناك يقضي النور جل وقته مع صاحب الأوصفوك الذي كان يلازمه باستمرار لصلة القرابة التي جمعتهما عبر منظومة العبدلاب. يذهبان إلى حدائق الحي الملهم بالغناء ويقضيان الجمعة في شمبات. وكان عبد المعين ثالثهم، وربما هناك في ذلك الجو البهي أكملت فرقة البساتين لحنا، أو ألهم الجو النور المنتشي فشرد إلى البحر يتابع موجة لحن جديد.

-3-
في قمة بدايته في السبعينات كان مهرجان الثقافة الأول أكبر سند للنور لينهض كفنان متكامل. فقد فاز بالجائزة الأولى، ومنها انطلق يجرب هنا وهناك. وقد لازمه البحث الدؤوب عن الجديد في الكلمة، واللحن، وشكل الأوركسترا حتى آخر أعماله التي جاءت للأطفال والكبار معا. وأثناء ذلك اكتشف النور خطورة تمرد إسماعيل عبد المعين على الميلودي السوداني، وعرف فكرته التي نحت إلى اعتماد منهج الزنجران. وفي سحارة عبد المعين وجد “قابلتو مع البياح” كعمل مفارق ومختلف عن كل شئ. أما في الحقيبة فقد أراد النور أن يكسب لحنها وإيقاعها العصرنة فغنى “صفوة جمالك صافي الماء على البلور” للشاعر عبيد عبد الرحمن. قدمها بشكل مغاير في الإيقاع مع تغيير طفيف في اللحن. وفي فترة من الفترات جارى الكابلي في “عز الليل” فقدم لحنا مختلفا لقصيدة الأستاذ التيجاني حاج موسى، وخلافا للحن الكابلي عزز النور الأغنية بسرعة الإيقاع. وتلك واحدة من ميز الجانب الآخر من غناء النور المفرح. فالإيقاعات الصاخبة وغير المطروقة هي ضمن تخاريجه اللحنية. ولعله استفاد من تجربة عبد المعين الباحثة عن إيقاعات وأنغام خارج نطاق منطقة الوسط ولذلك نحا النور إلى تخير الإيقاعات الجنوبية، واهتم كثيرا بشمل تميزه الفني بالغناء للجنوب.

ويقول الناقد صلاح الدين مصطفى إنه “إذا نظرنا للموضوعات التي غنى لها هذا الفنان نجدها شاملة لتفاصيل الحياة، فقد غنى للحب وللطبيعة الساحرة، كما غنى للقيم الأصيلة وللرثــــاء وغنى للوطن بطريقته الخاصة حيث كان يؤمن بالوحدة بين الشمال والجنوب. ويذكر الجميع أغنيتيه «يا مسافر جوبا» و»فيفيان»، التي تتغنى بالجنوب، واذا كانت أغنية «يا مسافر جوبا» تحكي شجون الشماليين وهم في طريقهم الى عاصمة الجنوب الساحرة فإن أغنية «فيفيان» تعبر عن فتاة جنوبية في عاصمة الشمال..”. وصحيح أن أغنيتيه جوبا وفيفيان أخذت موازير لحنية من غناء جنوب السودان. وفيفيان أعطت لونية النور بعدا جماليا كبيرا لكونها منحت المرأة الجنوبية موقعا ضمن عاطفة الشعر الغنائي. وحب النور للجنوب نبع من إنسانيته العالية بالآخر، وقد أصابه حزنا كبير عند انفصال الجنوب الذي زاره فعشقه. وأثناء فترة الانفصال أصيب بمرضه العضال في وقت كان يتمنى أن يقوم بجولة فنية للجنوب ليقضي وقتا مناديا فيه بالوحدة. ولكن الذي حدث أن مرضه أخذ أجمل وسيلة عرفت بشخصيته. لقد صمت الفنان، وذهب يطرق أبواب العالم المتقدم لعلاج حنجرته بعد أن وقفت معه جماهيره، ومحبوه ومريدوه، وأهالي منطقة أبو حليمة التي عاش فيها، مثلما لقي عونا مقدرا من الدولة التي اهتمت بصحته.

بقلم: صلاح شعيب
صحيفة الجريدة

Exit mobile version