هذا وطني فلا تفتروا علينا (1)

‏‏‏‏
معظم العرب لا يعرفون عن السودان إلا أنه بلد فيه نهر اسمه النيل، ومع هذا يشكو أهله من العطش، وبه حركات تمرد يقال إن بعضها شيوعي أو عميل لإسرائيل وأمريكا وكوستاريكا، ثم ظهر فيه قوم اسمهم الجنجويد يحاربون عناصر متمردة في مكان اسمه دارفور )نسبة إلى قبيلة الفور إحدى أكبر قبائل الإقليم(، وفوق هذا فالسودان ارتبط بمساندة الإرهاب ويواجه عقوبات من الولايات المتحدة وبعض حلفائها.

باختصار فإن الانطباع العام لدى العرب هو ان السودان بلد في طور التشكيل ويعاني من مشاكل »التسنين«، وهذا صحيح! ولا يذكر اسمه إلا مقرونا بمأساة من نوع أو آخر، على ذمة وسائل الإعلام، بكل اللغات، وتناسى العرب كل تلك المآسي، ومسكوا في حكاية أن السودانيين »كسالى«؟ كيف كسالى وفي كل إقليم جماعة تحمل السلاح لمحاربة الحكومة لـ»تحرير السودان« أو »الإقليم«؟ وما لا يعرفه الكثيرون هو ان السودان من بين دول قليلة في العالم الثالث تشكلت حدودها الحالية في عشرينيات القرن التاسع عشر، فقد أرسل محمد علي باشا حاكم مصر ابنه اسماعيل باشا على رأس جيش جرار لفتح بلاد السودان، وجاءنا جيشه في منطقة النوبة ففتحنا له كوبري )جسر( وقلنا له ربنا يسهل عليك، أي أننا لم نقاومه ولم نتصد له بسبب الاحتكاكات المستمرة التي كانت بيننا وبين جيراننا العرب المستعربة إلى الجنوب منا، وبسبب أننا حمّلنا العرب مسؤولية سقوط الدولة النوبية التي ظلت قائمة على المنطقة الممتدة من جنوب مصر وحتى جنوب مدينة الخرطوم لعدة قرون.

ووصل الجيش التركي إلى ديار قبيلة الشايقية وواجه مقاومة شرسة، وفوجئ الأتراك بأن هناك امرأة )مهيرة بنت عبود( وسط جيش الشايقية تشحذ هممهم للقتال بل وتسهم في المعركة، وبداهة فقد انتصر الجيش النظامي التركي على الجيش الشايقي القبلي، وزحف الأتراك جنوبا إلى ديار الجعليين، وهم إلي يومنا هذا من أكثر أهل الأرض شجاعة وبسالة، وفيهم الكثير من طباع الرؤساء الأمريكان، بمعنى انهم يشهرون السلاح أولا ثم يفكرون في التفاوض والصلح تاليًا، وكان اسماعيل باشا شابا متغطرسا، وجلس قبالة ملك الجعليين وكان يحمل اسم »نمر« وصار يعدد مطالبه: نريد كذا ألف حصان وكذا ألف رجل )ليلتحقوا بجيشه( وكذا مائة رطل من الذهب.. فقال له المك )الملك( نمر ان تلك الطلبات تعجيزية، وإن أهل المنطقة لا طاقة لهم بها، فانفعل الباشا وضرب نمر بغليونه )البايب( فشهر حراس ملك الجعليين سيوفهم ولكنه )نمر( أومأ إليهم بعدم الإقدام على أي حماقة، بل وابتسم للباشا وقال له: طلباتك أوامر.. وسنقدم لك اكثر مما طلبته، فأنتم ضيوفنا وشرفتونا ونورتونا.. وعلي بالطلاق انت وجيشك معزومون عندي في العشاء لتعرف مكانتك عندنا، ثم التفت إلى مساعديه وأصدر الأوامر بنحر مئات الثيران والخراف.
وفي المساء اقيمت وليمة ضخمة، وانتظم الجند الاتراك في حلقات تتوسطها جفان بها تلال من اللحوم، وقام أعوان ملك الجعليين بتوفير الخمور بكميات تجارية، وبينما الجند في حالة انتشاء وانبساط بعد شهور من الحروب والسفر عبر الصحاري، وبينما الخمر تلعب برؤوسهم كان الجعليون يضربون سورا من الشوك والحطب حولهم، وجاءت لحظة كان فيها اسماعيل باشا وكافة جنوده في حالة انعدام وزن، وعندئذ أشعل الجعليون النار في السور الشوكي وملأت الأفق رائحة الشواء، فقد احترق اسماعيل باشا وكافة افراد جيشه، ومن نجا من النار مات بسيوف الجعليين. ثم جاء جيش تركي آخر وارتكب مذابح بشعة في ديار الجعليين، ولكن نمر وأعوانه كانوا قد هربوا إلى الحدود الحبشية، وكان التصدي للغزو التركي مخاض ميلاد الروح الوطنية في سودان اليوم.

تقول عنّا كسالى: وَمِنّا غَداةَ الرَّوْعِ فِتّيانُ غارَةٍ، / إذا مَتعَتْ تحتَ الزِّجاجِ الأشاجعُ
أُولَئِكَ آبَائي، فَجِئْني بمِثْلِهِمْ، / إذا جَمَعَتْنا يا »فلان« المَجَامِعُ

 

 

جعفر عباس “زاوية غائمة”

Exit mobile version