لا نوارس ولا شموس ..!!
قبل ثلاثة أشهر، مررت بجوارها، وكانت تقف وحيدة بعد أن غادرتها رفيقات الزمن الأخضر .. ويوم أمس، مع أول الفجر، كانت الرسالة التالية : (فى مشهد حزين تم سحب الباخرة النيل الابيض آخر قطع الاسطول البحرى لما كان يسمى سابقا بالخطوط البحرية السودانية ..تم سحبها فى الصباح الباكر بعد ان تم بيعها كخردة.).. هكذا نعى الناعي آخر بواخر سودان لاين .. ويأتي نعي آخر بواخر الخطوط البحرية السودانية بالتزامن مع تصفية شركة الخطوط الجوية السودانية بعد إعلان إفلاسها .. لا طائرات و لا بواخر، بعد أن كنا الرواد في الإبحار والتحليق ..!!
:: بواخرنا كانت ملقبة بالخضراء، وكانت موانئ أوروبا تستقبلها بسلامنا الجمهوري.. ومنذ العام 1962، والى زمن ليس ببعيد، كان الأسطول التجاري لشركة الخطوط البحرية السودانية هو الأكبر في العالم الثالث..ولم يكن هناك أسطولا يتفوق عليه من حيث عدد البواخر – وليس الكفاءة – غير الأسطول المصري..ولذلك، لم يكن مدهشا أن يختار مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، في العام 1964، سودانلاين كأفضل نموذج للمشاريع الناجحة في العالم الثالث..وظلت بواخرها تنال درع التميز في السلامة وجمال المظهر عاما تلو الآخر..!!
:: سودانلاين كانت تمتلك أسطولا قوامها (15 باخرة).. ولذلك، كانت بواخرها تبحر بكبرياء طائر النورس – الذي كان شعارا – من المحيط الى الخليج، وفي كل بحار الدنيا و الموانئ العالمية والإقليمية، بلاغياب..ولاتزال في ذاكرة العرب، الباخرة شندي هي الباخرة الأولى التي عبرت قناة السويس – بعد إعادة فتحها في عهد ناصر – وهي محملة بالسلع الغذائية، ثم تلتها الباخرة سنار، وكان ذلك لكسر الحصار المفروض على الدول العربية ..وما نالت بواخر سودانلاين كل تلك الثقة وما إكتسبت كل تلك الكفاءة إلا بحسن الإدارة وسلامة الرقابة..!!
:: ماذا حدث؟ ..لاشئ غير التجفيف..فالباخرة أمدرمان التى انضمت الى أسطول سودانلاين في العام 1973، تم التخلص منها في العام (1995)..ثم تواصل مسلسل بيع البواخر ..نيالا، باعوها في العام (1996).. الأبيض، باعوها في العام (2002).. دنقلا، باعوها في العام (2003).. القضارف، باعوها في العام ( 2003).. وكذلك مروي في العام ( 1995)..والنيل الأزرق أيضا في العام ( 2004)..أما ستيت، فقد باعوها في العام (1997)..وكذلك الضعين في العام (2003).. ثمو باعوا الجودي في العام ( 2006) ..وفي يونيو 2014، أعلن الكابتن مصطفى مختار، المدير السابق لسودانلاين، بيع دارفور والنيل الأبيض.. وهذه وتلك كانتا آخر باخرتين في أسطول الشركة..!!
:: وبسحب تُجار الإسكراب الباخرة النيل الأبيض، تكون آثار كل تلك المدائن العريقة قد رحلت عن بلادنا وإختفت طيور النوارس التي كانت تُزيًن (سودان لاين) ، ويأتي ذلك بالتزامن مع توزيع خطابات الإستغناء للعاملين بأسطول طائرات الشمس المشرقة (سودانير)، وقد غربت ..ومن المحن، مع نهاية العام الفائت، بينما كان البعض يحتفل بالاستقلال والبعض الآخر يرثي الاستعمار، أسسوا المسماة بشركة سنجنيب للخطوط البحرية، و هي لا تملك من العدة والعتاد غير (لافتة بلاستيك)، وكأن الغاية منها هي محو سودان لاين وتاريخها الضاج بالبواخر والانجارات من ذاكرة الناس، أو كأنهم عاهدوا أنفسهم في تلك الليلة ألا يتركوا في البلاد (شيئاً جميلاً)..!!
بقلم
الطاهر ساتي