كاتب مصري: الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة متدهورة في السودان

من الطبيعي أن يؤدي تدهور الأوضاع الاقتصادية إلى كثير من الأزمات السياسية، عندما تعجز الحكومة عن معالجة أوجه الخلل بصورة سليمة، وتتبنى إصلاحات خاطئة أو غير ناجعة، وتزداد المشكلات ويصبح النظام أمام مواجهة مصير غامض.

السودان يعيش اليوم حالة اقتصادية سيئة وأوضاعا سياسية أسوأ. إذا أضيفت إليهما التوترات الأمينة، تصبح البلاد أمام منحنى خطير. بالطبع نجح هذا البلد في التعايش لفترة طويلة مع هذا الثالوث القاتم، وواجه كل نظام مكث في الخرطوم الأزمات بالطريقة التي رآها مناسبة. سقطت غالبية الأنظمة التي حكمت السودان، بفعل تداعيات أحد أضلاع هذا المثلث.

نظام الرئيس عمر حسن البشير، نجح في الإفلات من المقصلة على مدار ثلاثة عقود، لكنه الآن يواجه مستقبلا غامضا، لأن أزمات أضلاع المثلث (الاقتصاد والسياسة والأمن) حاضرة دفعة واحدة. ما يضاعف من مأزق الخرطوم.

الطريقة التي أقيل بها إبراهيم غندور وزير خارجية السودان مؤخرا، تكشف عمق الأزمة المتشابكة. الرجل أُعفي من منصبه بعدما تحدث بصراحة عن عجز الحكومة للوفاء بمرتبات موظفي السلك الدبلوماسي في سفارات السودان المختلفة، ما يعني أن الأزمة بلغت درجة تتجاوز حدود الضغوط الواقعة على المواطن البسيط.

التقديرات التي تتبناها قوى محلية وخارجية، تؤكد أن الأوضاع السياسية يمكن أن تنهار في أي لحظة بسبب تصاعد حدة الأزمات الاقتصادية. قال الصادق المهدي، رئيس حزب الأمة القومي، في تصريحات نشرتها صحف الخرطوم، الخميس الماضي، “الوضع الاقتصادي يتجه نحو الانهيار، وذهاب الحكومة أصبح مسألة وقت، لكن كيف تكون الحالة وكيف تنتهي لا أعرف”.

زد على ذلك، دعوة قوى في المعارضة إلى تصعيد المقاومة السلمية لعبور ما يوصف بـ”مستنقع الأزمات.. وتأسيس سلطة انتقالية تنجز برنامجا يعالج الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها البلاد”. في هذا السياق أكد أبوالقاسم برطم رئيس كتلة النواب المستقلين في البرلمان أن “المخرج الوحيد من أزمة المحروقات وارتفاع الأسعار، ذهاب المنظومة الحاكمة”.

الاتحاد الأوروبي، أوقف مساعدة السودان اقتصاديا، وأرجع ذلك إلى تعثر عملية الإصلاح السياسي، وعدم تحقيق الوفاق بين الفرقاء، وصعوبة توافق السياسات والقوانين الاقتصادية في السودان مع القوانين العالمية، هي إشارة سلبية تنطوي على رسالة دولية قابلة للتضخم.

المشكلة أن النظام السوداني، تبنى إصلاحات اقتصادية عديدة، لكنها خلفت جملة من الآثار السلبية، ولم تفض إلى ملمح إيجابي يشي بالتفاؤل في المستقبل. لم تفلح التفاهمات التي عقدتها الخرطوم مع عواصم كثيرة في تخفيف الأزمة الاقتصادية. شعر المواطن أن المساعدات والمنح التي حصلت عليها البلاد من جهات مختلفة، ذهبت إلى غير وجهتها الصحيحة.

رهانات الرئيس عمر البشير، على تلقي مساعدات اقتصادية كانت كبيرة. أدخل البشير تعديلات على توجهات بلاده. تبنى سياسات معينة. أزعج دولا عدة. شيد تحالفات انطلقت من قواعد اقتصادية لكنها لم تحقق أغراضه السياسية.

أغضب مصر لحساب إثيوبيا، أملا في الاستفادة من الكهرباء التي يولدها سد النهضة. أغلق المراكز الثقافية الإيرانية في السودان، للاقتراب من المملكة العربية السعودية وزيادة حصة استثمارات الرياض. ازداد قربا من قطر للحصول منها على المزيد من المساعدات. منح تركيا حق الانتفاع بجزيرة سواكن في البحر الأحمر، وعقد حزمة اتفاقيات اقتصادية دون مداراة لبعض الأبعاد الأمنية والسياسية، وكلها لم تفلح في إنقاذه من عثراته الاقتصادية.

الأزمات التي يعاني منها السودان، تحولت إلى مدخل للضغط عليه، وبابا لعقد الصفقات معه. الولايات المتحدة رفعت العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه بعد نحو 25 عاما من إقرارها، نظير التعاون في ملفات أمنية. وأبدت استعدادا لرفع اسم السودان من لائحتها الإرهابية، مقابل تحسن الأوضاع السياسية في البلاد.

الربط بين مثلث الاقتصاد والسياسة والأمن، لم يكن ملمحا داخليا فقط، بل تحول إلى علامة لإدارة علاقات الخرطوم بغالبية دول العالم. كان حاضرا في تغيير التوجهات وتعديل السياسات، بصورة بلغت تحولها من النقيض إلى النقيض. ضحى نظام الخرطوم بما كان يعتقد البعض أنه من الصعوبة التضحية به. انقلب على رفاق حاربوا معه في جبهة واحدة، دفاعا عن أفكار إسلامية محددة.

تدهور الأوضاع الاقتصادية، أصبح نذير خطر في السودان. النظام الذي أفلح في تجاوز الكثير من العقبات، وقبل التضحية بجزء من جنوب البلاد، يضيق أمامه هامش التحركات. الدول التي قدمت المساعدات لم تعد قادرة على الاستمرار في المنح، وهي ترى الأزمات تتصاعد والخلافات تتكاثر والخروقات تتزايد رقعتها.

قطاع كبير من المواطنين، جرى دغدغة مشاعرهم تحت لافتة وعود براقة، لم يعد بإمكانهم الصبر وسط أحوال من الصعوبة أن تتحسن في المدى المنظور. لذلك لجأ الرئيس عمر البشير إلى القيام بتغييرات في مؤسسات مختلفة، عسكرية وسياسية واقتصادية، لقطع الطريق على أي تحركات تململ من الأوضاع الحالية. أخذت الإجراءات الأمنية أولوية كبيرة، لأنها الأداة التي يمكن أن يبطش بها كل من تسول له نفسه الدعوة للتظاهر والاحتجاج.

هذه الأداة فقدت جانبا من فعاليتها ولم تعد مجدية، لأن الدول التي صمتت عليها من قبل، ليست مستعدة للسكوت حاليا، بعد أن حصلت على ما أرادته من الخرطوم. كما أن احتدام الأزمات يجعل مواصلة الرهان على تماسك النظام غير مضمون، خاصة وأن قدرته على مواجهة العواصف السياسية صعبة، ومناعته السابقة تتآكل، كما أن الرغبة في إعادة ترشيح الرئيس البشير لفترة رئاسية جديدة غير مقنعة حتى الآن لقطاعات كثيرة، في الداخل والخارج، وقد تؤدي إلى انفلات.

تراكم الأزمات الاقتصادية والسياسية، فتح شهية الكثير من قوى المعارضة المسلحة، وبدأت تسعى لتوظيف الموقف لصالحها، وقامت بتسخين الجبهات التي تقاتل عليها، في جنوب كردوفان والنيل الأزرق ودارفور. وهي على دراية بأن القوات السودانية أصبحت مشتتة بين ضبط الأمن الداخلي ومكافحة محاولات الشغب، وبين الحد من نفوذ الحركات المتمردة. ارتفاع صوت المعارضة السياسية مرة أخرى، والعزف على وتر الأزمات لتحريك الشارع نحو انتفاضة جديدة، لا تجد آذانا صاغية في الخرطوم أو في غيرها من المدن السودانية.

مشكلة قوى المعارضة، أنها فقدت حضورها في الشارع، ولم تتمكن من إقناع المواطنين بقدرتها على أن تكون بديلا للنظام. ضعفها قتل روح المجابهة التي تحلت بها لفترة طويلة، تخبط رموزها ساهم في التقليل من أهميتها. اختراق النظام لصفوفها واستمالته لقيادات فيها جعل الممارسات ضعيفة. الفشل في الالتفاف حول مشروع سياسي واحد، قضى على ما تبقى من ثقة في الأحزاب والقوى التقليدية.

الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة في معظم بلدان العالم. قوة أو ضعف أحدهما، تصطحب معها قوة أو ضعفا في الآخر. بالتالي فالسودان، بجميع قواه، في الحكم والمعارضة، بحاجة إلى معجزة للخروج من هذه الشرنقة.

محمد أبوالفضل

*كاتب مصري

صحيفة العرب

Exit mobile version