أهل الإبداع…عزلة ومرض بعد شهرة ونجومية..؟

كان قدره أن يتحسس تفاصيل الزمن المنزلق بين يديه ويسترجع شريطاً لشهرة تذوق شهدها سنوات طويلة، قبل أن يجور عليه زمانه فيجرده من شهرته تلك، ويحرمه شهدها، رامياً به في منطقة نائية وحيداً يلوك الصبر.. تلك سيناريوهات مكررة لعدد غير قليل من مبدعي بلادي من مختلف المجالات، الذين جارت عليهم الظروف وتنكر لهم الأصدقاء بعد أن انحسرت عنهم الأضواء.

بين يدي النسيان:
ثمة أشياء كثيرة من شأنها أن تكون مبعث ألم وحزن داخل المبدع، ولكن أكثرها وقعاً هو أن يجد نفسه حين لحظة من الزمن منسياً ومهملاً، بعد أن ظل يقدم عصارة جهده لإسعاد الناس ومداواة جراحهم عبر اللحن والكلمة والإيقاع والريشة والكرة وغيرها من أدوات الإبداع المختلفة.. وتثبيط هممهم، فـ(صاحب القدم الذهبية) الشهير بـ”حمد الجريف”، أيضاً هو وجه آخر لمعاناة مختلفة الطقوس، أبعدته عن الملاعب وأضواء الشهرة وحولته من لاعب كرة قدم شهير في الثمانينيات إلى بائع خضار في سوق الجريف، خبيراً بأصناف الخضر وأسعارها وعالماً بخباياها، دون أن تقدم له الأجهزة المعنية أي دعم تقديراً لمسيرته الكروية، والذين قاموا بمساندته هم سكان منطقة الجريف بعد قيامهم بعمل طوعي وتوفير (تربيزة الخضار) له عقب امتهانه لعدد من المهن التي لم يحالفه الحظ فيها.

مبدعون …. في سجلات الإهمال:
نماذج كثيرة يعج بها دفتر إهمال المبدعين، الذي يضم في ثناياه عدداً من الأسماء اللامعة في مختلف مجالات العمل الإبداعي، الذين لم يتوانوا يوماً ما في رسم البسمة على وجوهنا وإسعادنا.. أسماء وراؤها مختلف القصص والروايات الحزينة، التي ينفطر القلب لوقعها، ولعل وفاة المخرج “جلال البلال” وحيداً في منزله مؤخراً واكتشاف الوفاة لاحقاً واحدة من قصص الإهمال التي جددت الأحزان، وفتقت جراح المعاناة التي تواجه المبدعين، سيما أن الرجل لم يكن بحاجة سوى لجرعة دواء تشفيه، وهو بحسب المقربين إليه، قام ببيع هاتفه من أجل لقمة طعام تكفيه، بعد أن ظل يطارد متأخراته المستحقة بـ(التلفزيون القومي) التي تأخر أوان صرفها لأجل إنفاقها في استشفائه، لينهي بوفاته حياة مليئة بالإبداع ويغادر حزيناً ووحيداً.

نبيل متوكل مقعد، في كشف الإهمال:
الدرامي “نبيل متوكل” صاحب الطلة الرشيقة والضحكة الحلوة هو أيضاً أحد الأسماء التي يتضمنها دفتر الإهمال، عقب تعرضه للشلل الكامل جراء إصابته بغضروف العنق، الأمر الذي ترتب عليه إخضاعه لعمليتين جراحيتين بتكلفة 60 ألف جنيه، تكفل بجميع نفقاتها بنفسه، بعد أن قام ببيع سيارته، مؤكداً لـ (المجهر) أن الدولة أولته اهتماماً في بادئ الأمر بعد أن تكفلت وزارة الثقافة الاتحادية بحوالي 24 جلسة علاج طبيعي بقيمة 12 ألف جنيه فقط، ولم تجد الجلسات نفعاً، وقال مستعبراً: الآن أصبحت مقعداً أعاني الإهمال والمرض، بعد أن أنفقت كل ما أملك في سبيل العلاج، سيما أننا في هذه المهنة ليس لدينا معاش أو حقوق أو فوائد ما بعد الخدمة، بعد أن تركت مهنتي ووظيفتي التي كنت أشغلها (كموظف إداري) واستبدلتها بالتمثيل الذي أعشقه.
“نبيل متوكل” بدا نادماً على 40 عاماً من عمره وهبها للعمل المسرحي، جاب خلالها جميع ولايات السودان دون مقابل، لافتاً إلى أنه أمضى حوالي 18 سنة في العمل مع الأستاذ “الفاضل سعيد”، وبعدها مع الأستاذ “عماد الدين إبراهيم”، وقال: أعطيت المسرح 40 سنة من عمري، سافرت خلالها وساهرت، وأهملت أسرتي التي لم تكن تراني إلا قليلاً، وأضاف: كنت أقضي في كل جولة حوالي ثلاثة أشهر، أعود بعدها إلى أسرتي وأجلس معهم وقتاً قليلاً، ثم أعود للسفر مرة أخرى، طفت السودان شرقاً، وفي نهاية الأمر لم أجد أي تقدير نظير ما قدمت، وما داير من الدولة أي حاجة.

معاناة مرحلة المعاش:
ومن واقع تجربته الفنية والإبداعية ومعرفته بمكنونات الوسط الإبداعي وخباياه، اعتبر المخرج “إسماعيل عيساوي” بأن المبدعين في شتى المجالات وخاصة المجال الإعلامي تحديداً يعانون من الإهمال، سيما أن الأجهزة الإعلامية والصحفية عائدها المادي غير مجزٍ، بالكاد تتيح لهم العيش الذي لا يتناسب مع مكانتهم، لافتاً إلى أن معاناتهم تزداد وتتضاعف ببلوغهم سن المعاش أو إصابتهم بأمراض، وحينها يصبحون عرضة للوحدة والأمراض، دون أن يجدوا من يوليهم اهتماماً، وقال: بعيداً عن معاناة المبدع في المجال الإعلامي، فقد عايشت حالات مختلفة لمعاناة مبدعين في مجالات أخرى وإهمالهم، فقد كان للمخرجة “فاطمة عيسى” مأساة ينفطر لها القلب بعد عجزها عن فك رهنية منزلها، الذي رهنته لأسباب مادية مما اضطرها لبيعه في مزاد علني، لتصبح بلا منزل وتتوفى، وأضاف: الأسماء كثيرة في قائمة الإهمال، التي يتعرضون له، فمن غير الممكن لمخرج مثل “جلال البلال” أن لا يتعدى راتبه مبلغ 1500 أو 1600 جنيه، وغيره كثر، وزاد: الضرورة تستدعي إيجاد حلول جذرية لما يعانيه أهل الإبداع في شتى مجالاتهم، رغم أن صندوق المبدعين يقدم بعض الإعانات إلا أن ما يقدمه شحيح، فمن المفترض أن تكون الرعاية أكبر من ذلك بكثير، بحيث أن تكون هناك معاشات شهرية ذات قيمة عالية تكفي المبدع السؤال، نحن نعلم أن الدولة مصادر دخلها في الإنتاج غير كثيرة، ولكن من المفترض أن تقسم (النبقة) مع المبدعين.

تقرير – هبة محمود
صحيفة المجهر السياسي

Exit mobile version