“مدينة المئة اسم” عاصمة للثقافة الأوروبية لـ 2018

باتت المدينة الهولندية التي تعرف بأسماء عدة، منها “ليفردن” و”ليفرت” و”ليفادن”، فضلا عن مئات الأسماء الأخرى التي سُميت بها عبر القرون، عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2018.

ويرى الزائر لساحة “أولدهوفستركركهوف” التاريخية بمدينة ليفردن، عاصمة إقليم فريزلاند الهولندي، مزيجا من الغرابة والروعة، فهناك برج “دي أولدهوف” غير المكتمل الذي يعود للقرن السادس عشر، والمائل أكثر من برج بيزا الإيطالي، وهناك متحف “برينسيسهوف” الوطني للخزفيات المقام بقصر رُمم ليحوي أعمالا لبيكاسو، وتحفا صينية نادرة من عصر أسرة مينغ.

وهو نفس العصر الذي عاش فيه مصمم القرن العشرين، موريتس كورنيليس إيسكر، طفولته والذي اشتُهر بابتكار تصاميم السلالم اللامتناهية ومساقط المياه الخادعة بصريا.

كذلك تضم الساحة قاعة البلدية العتيقة المرتبطة بأسطورة “غروت بيير”، ذاك القرصان الضخم الخارق الذي أراد القضاء على أي شخص ليس من أبناء فريزلاند!

أما الأغرب من كل هذا، فربما هو ذاك المكان المعروف بلغة فريزلاند باسم “لان فان تال” أو “أرض الألسن”، والذي يبرز آلاف اللغات التي عرفها البشر. ومنذ يناير/كانون الثاني، أُضيف مبنى “أرض الألسن” إلى الساحة في إطار فعاليات عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2018، حيث تُعرض كلمات من 6720 لغة من شتى أنحاء العالم، منها اللغة الفريزية المتحدث بها في الإقليم.

وليس مستغربا أن يجد هذا المبنى مستقرا له في مدينة ليفاردن – أو “ليفرت” و”ليفادن” و”لفادن” و”لوفت” و”ليوارد” و”ليوارديا”، حسبما عُرفت في الفترة ما بين القرنين الحادي عشر والتاسع عشر – التي باتت تُعرف بـ”مدينة المئة اسم”!

ويشير سيارت سميت، المسؤول عن برنامج “أرض الألسن” إلى الهدف من البرنامج بقوله: “نسعى لإبراز اللغات، وليس أفضل من هذه المدينة لما لها من تاريخ لغوي فريد”. ويضيف وهو يتجول في المبنى: “يعتمد إقليم فريزلاند لغتين؛ هما الفريزية والهولندية، كما يعيش في ليفاردن أفراد من 128 جنسية مختلفة، ومن ثم فقصة تلك المدينة تعد عنوانا لتنوعنا واحتفاء بتعدد اللغات عموما”.

وتعد قرابة نصف لغات العالم مهددة بالانقراض، ومن ثم تبرز أهمية برنامج “أرض الألسن”، إذ تتدلى من أسقف بنايته قطع خشبية نُقشت عليها لغات مختلفة، منها على سبيل المثال لا الحصر السويدية والسوابية، ولغة السواوا، ولغة سوروي بارا، كما تضيء لافتات النيون بالألوان الأبيض والأحمر والأزرق والأخضر للتعريف بكلمات مختلفة يستخدمها البشر للتعبير عن ذات الفكرة، ما يحيط المكان بهالة من ألوان الطيف.

وإضافة إلى التنوع القائم بـ”أرض الألسن”، تتسم مدينة ليفاردن عموما بغرابتها اللغوية، فاسم المدينة ذاته لم يستقر منذ نحو ألف سنة، وتشهد بذلك موسوعة غينيس للأرقام القياسية العالمية التي أوردت 225 اسما مشتقا للمدينة.

فما هي حكاية تلك المدينة ذات تلك الأسماء العديدة؟
في البداية، لعبت الجغرافيا دورها، إذ يقع إقليم فريزلاند في أقصى شمال غربي هولندا حيث تحده المياه من ثلاثة أوجه، وقد انضوى الإقليم تحت لواء المملكة الهولندية الحديثة التي نشأت في خضم حروب نابليون في مطلع القرن التاسع عشر، مع احتشاد القوى الأوروبية لهزيمة بونابارت.

واليوم، ينظر الهولنديون لفريزلاند بنوع من الخصوصية، فرغم نمط البيوت التقليدية والقنوات المائية والحارات التي تجوبها الدراجات التي لا تكاد تختلف عن أي بقعة أخرى في هولندا، إلا أن الحياة في الإقليم تسير بوتيرة أبطأ، ويُعرف سكان فريزلاند بحبهم للعزلة والاسترخاء، وسكان الإقليم ليسوا بنفس التجاسر في الحديث كبقية الهولنديين.

كما أن فريزلاند أقل بقاع هولندا من حيث الكثافة السكانية، وقد حدا هدوء الإقليم بمجموعات سكانية متنوعة، مثل الفرنجة والهولنديين، والفلمنكيين، والساكسونيين، والوالونيين، للانتقال للعيش به، وبدأت كل مجموعة تنطق اسم المدينة بطريقتها الخاصة.

وسألتُ أحد المؤرخين بالمركز الثقافي بالمدينة، وهو المؤرخ هينك أولي، فقال لي إن تفسير هذا الكم الضخم من الأسماء ليس بالأمر السهل، وعدد لي كيف أن ليفاردن تعرف بلغة فريزلاند بـ”ليفرد”، ويعرفها عموم الهولنديين بـ”ليفاردن”، كما تسمى وفق لهجتين محليتين بالمدينة بـ “ليفادن” و”ليفادرز”، فضلا عن تسمية سكان آخرين بالإقليم لها بـ”لوفت”.

وعبر العصور، أراد المؤرخون توحيد تسميتها باللاتينية فأطلقوا عليها “ليوفارديا” – ومع اختلاف النطق بين الحروف الساكنة والمتحركة، تعددت الأسماء أكثر!

وأضاف أولي: “قبل عام 1804، لم يكن هناك هجاء رسمي للاسم، فكانت كل مجموعة تكتب اسم المدينة حسبما تنطقه”.

واليوم لدينا قائمة بـ 225 اسم (وهو الرقم القياسي العالمي لموسوعة غينيس)، وهذا الرقم هو جراء جهد أحد حفظة أرشيف المدينة بالقرن التاسع عشر، ويدعى فوبكه إيكهوف، وكان نجلا لأحد الصاغة، وباشر عمله بسجلات المدينة عام 1838. وكان إيكهوف أول من عهد إليه هذا الدور في هولندا؛ إذ طلب منه التأريخ الكامل للمدينة ورعاية إرثها.

وجد إيكهوف المهمة غاية في الصعوبة، فقد تغير هجاء اسم المدينة في الفترة ما بين عامي 1500 و1520 وحدها بواقع كل عامين تقريبا. لكن الباحث المجد لم يأل جهدا في تدوين كتابين كل منهما من 400 صفحة لتاريخ المدينة، تتبع خلالهما تسميتها من “ليفنفرت” عام 1039 وحتى “لوفيدين” عام 1846.

وفي وقت لاحق من القرن التاسع عشر، طرأت تغييرات أخرى مع نشر كل من الأكاديمية الملكية الهولندية للعلوم عام ،1864 والجمعية الملكية الهولندية للجغرافيا عام 1884، أول قوائم لأسماء الأماكن بالبلاد اتفاقا مع قواعد الكتابة الحديثة، ولم يفت وقت طويل إلا وأصبحت الصيغتان الهولندية والفريزية هما الصيغتان المتداولتان للأسماء.

ورغم ذلك، يقول أولي إن الحكومة الهولندية لم تقر حتى يومنا هذا قائمة موحدة لأسماء البلدات والقرى، وبالتالي يُستعان حتى الآن بما ورد بخرائط وسجلات إيكهوف. ويضيف: “ليست هناك قواعد، ومن ثم فمنذ مطلع القرن العشرين يكتب اسم المدينة (ليفاردن) بلغة عموم هولندا، بينما تكتب إدارة إقليم فريزلاند الاسم (ليفرت)”.

وكذلك يمثل الشعار الرسمي للمدينة معضلة أخرى، إذ يظن كثيرون أن اسم المدينة مشتق من كلمة “أسد” أو “ليو” اللاتينية بسبب شعارها المزين بالأسد الذهبي، وبالتالي يظنون أن المقصود هو “ليفردن”، كونها (مدينة الأسد).

غير أن كريستينا فولكر، المرشدة السياحية بالمدينة تؤكد أن ذلك ليس صحيحا، “فالاسم مشتق أصلا من كلمة (ليوف) وتعني (لا رياح) و(فردن) وتعني (التلال الصغيرة) باللغة الفريزية، فالمدينة أُسست على ثلاثة تلال كومها البشر حتى لا يجور البحر على اليابسة، وبالتالي أمِن الناس خطر المياه فصارت مدينة هادئة بلا رياح!”

“المدينة الهادئة” أصبحت الآن تعج بالنشاط بعد حصولها على لقب عاصمة الثقافة الأوروبية، وهو النشاط الواضح بين الزوار المصطفين أمام متحف فريزلاند، ولمشاهدة صورها ولوحاتها العديدة التي كان إيكهوف أول من جمعها، والمعروضة الآن بصالات مركزها الثقافي.

وتستمر الفعاليات على مدار عام كامل احتفاء بالتاريخ اللغوي الثري للمدينة، وهو ما يُعِّرف المزيد من الزوار بها، بينما يأمل سكان فريزلاند أن يستقر العالم على اسم مدينتهم أخيرا!

بي بي سي عربية

Exit mobile version