يبدو المشهد السوداني في قمة ضبابيته بالطبع تنفتح السيناريوهات على أسوأ الاحتمالات، بينما المشكلات تلد بعضها ولا حلول تبدو في الأفق القريب، فيما تحاول الحكومة كعادتها التعويل على خيار الوقت لإيجاد حلول لندرة الوقود الراهنة وهي الأزمة التي ستتجاوز الطلمبات للتأثير على مجمل السلع الأخرى، أبرزها تلك المتعلقة بالموسم الزراعي، وهو ما ينبئ عن ندرة في سلع أخرى، الأمر الذي دفع بالمنظمات الدولية لقرع ناقوس الخطر على مستقبل البلاد التي يخترقها النيل من أعلاها إلى أدناها.
أزمات في كل شيء تحيط بالبلاد إحاطة السوار بالمعصم، وهو ما دفع بالكثيرين للتعليق بأن البلاد الآن في (غرفة الإنعاش) مما يولد السؤال حول استراتيجيات البحث عن العبور للضفة الأخرى من النهر وكيف سيتم الوصول إليها.
المفارقة أن ثمة اتفاقا عاما على أن الأوضاع باتت أصعب من أن تحتمل، وربما تكون نتيجتها الحتمية التعليق بالقول كان هنا وطن.
1
لم تعد الأزمة في حاجة للتعبير عنها، فهي تمشي مع الجميع حذو الحافر، ويمكنك معايشتها في كل مكان في الأسواق وفي تقاطعات الشوارع في أزقة الأحياء وفي جوف مواقف الانتظار للمواصلات العامة في ازدحام الحافلات وفي صفوف الحصول على الوقود، في الشوارع المفتوحة على كل الاحتمالات، وفي غرف البيوت المغلقة الكل يردد العبارة (البلد دي انتهت خلاص)، من يعايشون حالهم المائل يؤكدون في مكان آخر أن لا أحد يمكنه الآن تقديم روشتة حلول نهايئة لأزماتهم وأن عليهم فقط الصبر لحين انجلاء أزماتهم، بالطبع يختمون جدلهم اليوماتي بسؤال آخر لكن كيف؟ ولا أحد يمكنه إنكار أن حالة عدم الثقة بين المواطن والحكومة تتزايد بمعدل يومي وتغذيها حالة ازدياد حدة المعاناة في أوساط الناس وعودة البلاد حوالى ثلاثين عاماً للوراء، مما عظم هذا الإحساس هو أن كل المعالجات تأتي عليهم بمزيد من المشكلات.
2
واحدة من أهم وظائف الحكومة هي إيجاد الحلول للأزمات باعتبار أن هذا هو الطريق الوحيد لاستمراريتها في إدارة شأن الناس وتحصيل حالة من الرضاء العام كان ذلك كافياً لأن تنخرط الحكومة في مجموعة من المعالجات الإسعافية لوضع الأمور في نصابها الصحيح، وذلك بغية إيجاد علاج ناجع للأزمة الاقتصادية في البلاد تم ابتدارها بمحاولات مستميتة من أجل الحفاظ على ثبات سعر الصرف، وذلك بتقليل السيولة النقدية رغم أن كثيرين انتقدوا هذا الأمر في سياق أنه جاء في إطار معالجات أمنية يمكنها أن تحقق نجاحاً محدوداً دون التأكيد على استمراريتها، وهو أمر من شأنه أن يجعل الأمور تبدو خارج سياق السيطرة الحكومية، لكن الأمر لم يتوقف عند هذه السياسات المعلنة، بل فاقمت ظاهرة ندرة المواد البترولية في دفع رئيس الجمهورية للإعلان عن معالجات جذرية في الشأن الاقتصادي بالطبع المعالجات الجديدة التي أعلنتها الرئاسة انطلقت من فرضية واحدة أساسها ضرورة رفع مستوى الإنتاج والتعويل على الزراعة باعتبارها الطريق الوحيد لمغادرة الأزمة الراهنة.
3
تشير الرئاسة لمعالجة تتعلق هذه المرة بالسياسات التي يتم من خلالها التعاطي مع مشكلات الاقتصاد السوداني لكن وبحسب ما رشح من أنباء فإن المعالجات لن تكتفي فقط بجانب السياسات وإنما ستتجاوزه إلى من يقومون بتنفيذ هذه السياسات، وهو ما يعني أن المؤشر يتجه وبشكل تلقائي نحو إعادة تشكيل الحكومة، وذلك عبر الدفع بأشخاص آخرين، المفارقة أن الحكومة التي تسمى حكومة الوفاق الوطني ويرأسها رئيس مجلس الوزراء القومي النائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق أول بكري حسن صالح قد جعلت من تخفيف أعباء المعيشة شعاراً لها، وأن شعارها الرئيس هو توفير وتسهيل عملية الحصول على قفة الملاح، في وقت سابق كانت تسريبات تؤكد على عدم رضا رئيس الجمهورية عن الأداء الاقتصادي لحكومته، وهو ما استدعى إنجاز بعض التعديلات في عدد من المؤسسات، بل إن بعض اختصاصات المؤسسات الاقتصادية صارت أحد الأولويات التي يتابعها رئيس الجمهورية.
وفيما يبدو فإن خيار إعادة تشكيل الحكومة والدفع بشخوص آخرين يظل إحدى أدوات الحلول التي يمكن أن تلجأ إليها الحكومة من أجل التقليل من المشكلات أو إيجاد حلول لها، البعض يشير لتسريبات بإمكانية عودة من اصطلح على تسميتهم بالحرس الإنقاذي القديم، لكن مثل هذا النوع من المعالجات يرى البعض فيه أنه محض محاولة إعادة تجريب للمجرب ولا يمكن أن يأتي بجديد طالما أن السياسات هي نفسها السياسات.
4
يعلن رئيس لجنة الطاقة والتعدين بالبرلمان السماني الوسيلة أن أزمة الوقود التي تعيشها البلاد طوال الأسابيع الماضية لن تتكرر، وأن الصفوف بمحطات الخدمة ستنحسر تدريجيا خلال الأسبوعين أو الثلاثة القادمة، مؤكداً أن ما تم من إجراءات من قبل وزارتي المالية والنفط وبنك السودان سيوفر احتياجات البلاد من المحروقات. السماني الذي كان يتحدث في البرلمان عقب انفضاض اجتماع ضم لجنته بكل من وزير المالية ووزير النفط ومحافظ بنك السودان للاطمئنان على مدى توفر الأموال التي يمكن من خلالها جلب المواد البترولية، ونادى رئيس اللجنة المواطنين بتجاوز عمليات تخزين المواد البترولية وحرمان الآخرين منها، كان الرجل يشير ساعتها لنمو سوق ضخم خارج الطلمبات، وهو ما يعني أن ثمة أزمة أخرى تتعلق بما يمكن تسميتهم بتجار الأزمات.
بينما يعيد رئيس لجنة الطاقة الوعود بإمكانية انحسار الصفوف ويجزم بعدم عودتها، وهو أمر مرتبط وبشكل كبير بتوفير موارد النقد الأجنبي التي يمكن من خلالها توفير السلع الرئيسة، وهو ذات ما يعيد السؤال هل هناك احتياطي من الأموال يمكنه تحقيق تلك الغاية؟ لكن رئيس لجنة الطاقة وضع الإجابة على سؤال الأزمة من خلال تأكيده على أن الأمر يرتبط بتناقص موارد البلاد من النقد الأجنبي.
5
تحاول الحكومة معالجة الأزمات المحيطة بالبلاد من خلال إعلانها تعديل السياسات أو عبر إحداث تغيير على مستوى الشخوص الذين يقومون بتنفيذها على أرض الواقع، ومن خلال انتهاج الأسلوب الذي يقلل من حدتها عبر بث رسائل الطمأنينة مثلما يأتي في سياق التصريحات الإعلامية على شاكلة وصول عدد من البواخر المحملة بالنفط أو على طريقة رئيس لجنة الطاقة بالبرلمان في تصريحه الأخير، فيما يظل السؤال الآخر هو ذلك المتعلق بما يمكن أن تفعله المعارضة في سبيل تخفيف حدة المعاناة عن المواطنين، وفيما يبدو فإن خيار انعدام السلع وازدياد حدة الاحتقان الشعبي أمر يمكنه أن يصب في صالح المعارضة وبإمكانها توظيفه بما يخدم أغراضها في سعيها من أجل إنجاز تغيير شامل ظلت تدعو له منذ بيان الإنقاذ الأول، لكن المفارقة أن ما يجري الآن يبدو نقيضاً تماماً لما دعا له خطاب الثلاثين من يونيو في العام 1989م، فكل ما دعت إلى تغيره الإنقاذ يعود الآن وبشكل أكثر ضراوة وهو ما يعني افتقاد الإنقاذ لمبررها الأخلاقي في الاستمرارية، وأنه آن أوان مغادرتها دست الحكم، فهو الباب الوحيد لإنقاذ ما تبقى من البلد.
6
منذ قرار إقالة وزير الخارجية إبراهيم غندور من منصبه باتت الوزارة الآن دون وزير، بينما يتم تسيير نشاطها عبر وزير الدولة، قد لا يبدو الأمر هنا متعلقاً بغياب وزير الخارجية فكثيرون يشيرون إلى نقطة أخرى مفادها أن السودان الآن دون وزير خارجية، وفي الوقت نفسه دون معارضة، فالأزمات المتلاحقة يمكنها أن تصلح من أجل قيادة الجماهير في سبيل تحقيق تطلعاتها في مستقبل خالٍ من الأزمات بالنسبة للكثيرين، فإن الصمت على الوضع الحالي في البلد هو دليل فشل لكل المشاريع السياسية، فالناس في كل مكان يحركها الأمل لإحداث التغيير وهو الخطاب الذي عجزت المعارضة عن تسويقه طوال السنوات الماضية، وعلى سبيل الدقة عجزت في أن تجعله ينساب بسلاسة نحو عقول الجماهير ويطمئنها على المستقبل، الأمر الذي لا يتوقف عند هذا الحد، وإنما بدا جدل المعارضين وكأنه يمضي في اتجاه آخر تماماً حول إمكانية المشاركة في انتخابات 2020 أو مقاطعتها، وهو أمر بدا متوائماً تماماً مع رؤية الكثيرين حول جدية المعارضة في التعبير عن تطلعات الناس، ومؤكد عجزها عن قيادتهم ومبرراً كافياً لانفضاضهم من حولها، إذ لا يستقيم أن يتم الجدال حول صندوق انتخابات في بلاد تعجز عن توفير صناديق (البندورا) لمواطنيها، وفي ذات السياق يتساءل المواطنون هل يمكن للأمور أن تمضي هكذا إلى حين الوصول لـ2020؟.
اليوم التالي.