* بعد نحو عام من الأحداث السياسية المتلاحقة التي اعقبت اعفاء الفريق طه عثمان من منصبه يفوق من المادة المسكرة أولئك الذين ظنوا أن تغيبه سيجلب لهم الطمأنينة، مرة وللأبد، فهو أشبه بلاعب سيرك موهوب ليس من الحكمة التفريط فيه، في الأوقات العصيبة، وإلا ما الذي جعل دولة بأهمية وثراء المملكة العربية السعودية تحرص عليه كل الحرص وتمنحه أسرارها؟
* بغيابه لم تنجلى الأزمات، هذه حقيقة، الغلبة فيها للمشقة، إذ تفاقمت بصورة أشد وطأة عليهم، وكانت لا تكلفه في الماضي المطالب العزيزة اليوم أكثر من رحلة بالطائرة، يعود منها ظافراً، لا كساحر يختلق الحلول بسهولة، ولربما لأن البركة حلت فيه، أو أنه يمضي إلى هدفه دون تردد .
* كان في الماضي يهمه رسوخ الانطباع بأنه ساذج ومغلوب على أمره، لتنصرف عنه الأضواء ريثما ينجز مهامه، ولذلك احتل مقعدﺍً دائم في بيت الضيافة والقصر الجمهوري، وفي كل مكان حلت فيه السلطة . كما أن لديه قدرة على البت، بخلاف أنه مسكون بروح المغامرة، في حدود أدني من الطموح بمنصب الرئيس، ولذلك بقى طويلا في موقعه، ولذلك تعززت سلطاته يوما بعد يوم! وبات أشبه باليد الفولاذية، أدرك الرئيس البشير أن يكون بالقرب منه رجل فولاذي . يمكنك أن تتخيل كيف حدث ذلك، او بالطريقة التي يتعين عليهما أن يفكرا بها معا، الرئيس وطه .
* منذ أن أفلت المقود تناسلت الكوارث الاقتصادية، صفوف الخبز تلد صفوف أخرى، والوقود يتبخر، والأزمة مكانها غير معلوم، الأزمة وين؟ وين؟ البنك المركزي يتدفق بيانات ويعقم من السيولة! والدولار ينطلق .. شيء غريب يحدث، مزيج من الخوف وفقدان الأمل والأفق المسدود، لدرجة أن الحكومة أخرسها العجز، تمامﺎً، ولم تعد تعرف ما يمكن أن تفعله، فماذا حل بنا يا رب ؟
* هل صحيح أن الدولة افتقدت جسارة الفريق طه والمهام الصعبة التي كان يطلع بها؟ بالطبع تصعب الإجابة على هذا الاستفهام، إن لم يكن واقع الحال أمضى بيانا، يمكنك فقط أن تتأمل دولة الافندية، الذين يجتمعون بالساعات ويهذبون شواربهم وربطات العنق، ويستحون من الدخول في تسويات أو يطلبون شيئا لبلادهم. إنهم بارعون في الشكوى والثرثرة، ولكن ميزة الفريق طه المباشرة والوضوح، يستوف أيما مهمة حقها، ولا يعود بخفي حنين .
* الغريب في الأمر، أن الرئيس البشير جربه بالفعل، ووجده أنفع ما يكون، وأجدر بالاطلاع بالمهمات الصعبة، يخترق أعتى الجدران، ولذلك توسم فيه فتح كوة على الجدار البعيد
فبعيد أن هجرنا إيران ودخلنا في حوار مباشر مع أمريكا وشاركنا في عاصفة الحزم بقوة عسكرية مقدرة، هى الراكزة والفاعلة الأن على الجبهة اليمنية .. إذا اعتبرنا أن ذلك زرعنا، فكيف لم نصبر للحصاد؟ وتم ضرب عنق الرجل الوحيد الذي كان يسعى وراء الحصاد، وواجه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالطريقة التي يفهمها الأخير، وجعل للدبلوماسية الرئاسية فاعلية، وهو المثابر بالطبع والقادر على أن يطلب من المملكة العربية السعودية والإمارات أن تعبأ بالسودان كما تعبأ بمصر، ولن يعجزه جلب الاستثمارات، وملاحقة أثار العقوبات، كما كان يفعل دوما، فمن يا ترى تولى المهمة بعده، ولم يفها حقها .
* لقد تعرض الفريق طه عثمان لظلم فادح، أليس ذلك صحيحا؟ وطالته سهام من الاتهمات واجهها بجلد وصبر جميل، وحتى عندما تحدث قبل أيام وقال إنه ليس له علاقة بإقالة وزير الخارجية إبراهيم غندور، فقد كان صادقا، ميزة الفريق طه أنه صادق فيما يصرح به، ويتمتع بالشجاعة، ويعبر عن أفكاره ببساطة ووضوح، دونما تجمل، وهى خصال بقدر ما أنها غير مطلوبة في السياسيين، لكنها للمفارقة تشكل مصادر قوة طه، وإذا لم يكن قد أبعد بالفعل، وظهوره المتكرر مؤخرﺍً مع الرئيس ينفي ذلك، فمن المرجح أن يعود على ظهر موجة عاتية، ويتم تسكينه ﻣﺠﺪﺩﺍً في وظيفة أرفع، لأنهم في أمس الحاجة له في هذه اللحظة تحديدﺍً، ولسان حالهم ” في الليلة الظلماء يفتقد البدر” .