منذ فترة ليست بالقصيرة، تلاحظ تباعد الخطى والجفوة البائنة بين مركز صنع القرار الأعلى في الدولة والبروفيسور إبراهيم غندور وزير الخارجية الذي أعفي، وتراكمت من تلك الفترة مبررات ومسوغات الاستغناء عنه وإعفائه، لكنها كما كانت تبدو مسألة وقت وتخير اللحظة المناسبة الحاسمة،
ومن جانب غندور نفسه كان يُبدي ولا يُخفي لكل من يلتقيه زهداً كبيراً في الاستمرار، ولا يضمر علماً مسبقاً بأنه لم يعد مرغوباً في وجوده لأسباب ربما يعرفها ويعرفها مالك القرار السياسي الرفيع، ومع ذلك لم يكن ما حدث في البرلمان قبيل الإعفاء وراداً أصلاً، فلو كان هناك معشار علم بما سيقوله الوزير وبهذه الصراحة والكيفية لاتُخذ قرار الإعفاء قبل إلقاء البيان، كانت هناك نار تحت الرماد، وكان هو يعلم أن ألسنة لهبها ستصل إليه طال زمنها أم قصر!!
> في أبسط التقديرات لما حدث في البرلمان الأربعاء الماضي، أن غندور كان يعلم علم اليقين أنه سيلقي خطابه الأخير ويغادر وسيقال، وهو يعرف خطورة ما سيقوله، فهو لم تخنه حصافته وهو حصيف، ولم تخذله براعته السياسية وهو بارع، ولم يقصر به فهمه وتقديره فهو يحسن التقدير ويجيد التصرف، كان مصمماً على الفعل ومتيقناً من ردة الفعل..!! وليس من اللائق هنا الحديث عن صحة ما قاله من عدمه، فحال الخارجية واضح للعيان، وما تعانيه الوزارة والدبلوماسيون لا يخفى على الحكومة ورئاسة الدولة، فهي تعرف منه وتعلم من غيره أيضاً، لكن ما حدث وما جرى كان شيئاً يستحق التوقف عنده.
> فمن بين (32) وزيراً للخارجية في تاريخ الحكم الوطني (بالتعديلات الوزارية المختلفة تكرار الوزير في المنصب) وآخرهم غندور، لم يسبق أن أُعفي وزير وحده وبهذه الطريقة وبقرار مفرد، وهو ثالث طبيب بشري يتولى الوزارة بعد بروفيسور حسين أبو صالح ود. مصطفى عثمان إسماعيل، أولهما اختصاصي مخ وأعصاب والباقيان نطاسيا أسنان، جاء للوزارة برصيد في العمل النقابي، وهو الأمر الذي جعل كثيرين يفسرون بيانه البرلماني الأخير بأنه مقطوعة مطلبية نقابية نزع منها النفس الدبلوماسي والروح السياسية المحضة.. وجاء للوزارة كسياسي عمل عميداً لكلية جامعية مرموقة بجامعة الخرطوم، ثم مديراً لأم الجامعات السودانية وأكثرها تمرغاً في جمر السياسة وأهوالها وأحوالها.
> كون السيد غندور لم يكترث لشيء وهو يلقي بيانه، هذا يرفضه المنطق السليم، أراد وهذا ظنه وظن جمهرة من المتابعين، أن يخرج من الخارجية وقلاعها، مثل فرسان العصور الوسطى حاملاً رمحه مدافعاً ولابساً خوذته المزركشة وعلى صدره درعه، لكنه في ذات الوقت مهزوم بالظروف التي أحاطت به وجعلت القلعة تسقط .. متحملاً مسؤولية كل شيء متخلصاً من العبء وراضياً من الغنمية بالإياب، وهذه حالة سياسية إن وضعت تحت مجهر الفحص هي أقرب للتطهر الأسقفي الكاردينالي في المسيحية القديمة منها إلى عالم التصنع والتعايش السياسي الحديث في عصر جديد الذي يجيده عدد كبير من السياسيين في زماننا هذا.
> ويعلم السيد الوزير وهو يتأبط ملفاته ويدلف إلى البرلمان، أن وراءه خيط دخان يدل على مقصده مهما كان، فهو لم يعد أثيراً منذ أن تقدم باستقالة رفضت من حيث المبدأ في توقيتها ذاك، لكنها بمضمونها وما يترتب عليها ظلت باقية كأثر الفأس لم تنسَ، وهناك ركام من وقائع سبقت ظلت أيضاً شاخصة، وفي السياسة لا شيء يدوم ولا ود باقٍ، فالظروف والملابسات هي التي تتوالد منها المواقف وتخرج من فرثها ودمها القرارات.
> لكن رغم كل هذا وذاك.. قصد غندور أن يقول كلمته ويمشي قاصداً … متعمداً .. لا مبالياً، ولعله كان كما يقول بعض ممن قابلوه أو المقربون منه، يعرف أن أوان انصرافه ينزلق في محبرة قلم الإقالة، لم يكن كديك المسلمية، كان يرى ويسمع ويشاهد (بصلته تتقلب وسط الزيت في حَلة القرار الأخير)، وكونه راضياً بما فعل وقدم عقب الإقالة، فهو ناتج عما انتوى عليه كما كان يقول من فترة، إن جلباب العمل التنفيذي أضيق منه وأرض الله واسعة … لكن كما غنى وردي (بعد إيه)؟!
الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة