سد النهضة.. المفاوضات مجرد عملية سياسية
القناعة الظاهرة في الخطاب السياسي للدول الثلاث، تبدو منصبة على وقف التصعيد، لأن المنطقة لا تتحمل صراعا مدمرا.
كم أزمة سلكت طريق المفاوضات ووجدت حلولا لها؟ كم أزمة دخلت في محادثات ومناقشات وخرجت منها كما هي وربما أشد تعقيدا؟ كلنا يتذكر مقولة إسحق شامير، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، عندما اعترف قبل انطلاق مؤتمر مدريد أنه على استعداد للتفاوض عشر سنوات مع الفلسطينيين دون أن يقدم شيئا.
لكل حالة خصوصيتها في النجاح والفشل، لكن في الحالتين تتوقف النتيجة على مدى الجدية التي تدير بها جميع الأطراف المفاوضات. إذا كانت تريد البحث عن حل فعلي للأزمة التي تتباحث حولها ستجده حتما، عبر تنازلات من هنا أو هناك. أما إذا كان أحد الأطراف ولجها ذرا للرماد في العيون، فهي تتحول إلى عملية سياسية وكفى.
عندما تصبح المفاوضات عملية سياسية من الصعوبة أن تؤدي إلى نتيجة لحسم الخلافات، فكلما اقترحت جهة حلا وجدت صدا ومراوغة من الجهة الأخرى، دون أن تنفض الجلسات ويقر الجميع بالفشل.
الإعلان صراحة عن ذلك ممنوع، لأنه يفضي إلى أزمة أكبر، أما الرفض الضمني فقد يمنح صاحبه فرصة للمناورة، دون اتهام محدد بالهروب والتنصل من الالتزامات، ويوفر له مجالا لاستنزاف الوقت، لإرهاق الطرف المقابل وإجباره على القبول بالحد الأدنى مما يُقدم له.
السد وصل إلى نقطة جعلت مصر تفكر في بدائل مائية. وتدخل عصر تحلية المياه على نطاق واسع، ما يعني أنها استسلمت للأمر الواقع
هكذا يُخيل لي حال المحادثات التي دخلتها مصر مع إثيوبيا بشأن أزمة سد النهضة منذ خمس سنوات. لم ترفض أديس أبابا طلب القاهرة مفاوضات مباشرة لوقف التداعيات المائية السلبية التي يؤدي إليها إنشاء السد. رحبت وتنقلت جولات التفاوض من القاهرة إلى أديس أبابا وبينهما الخرطوم. لم تسفر عن نتيجة تشي بأن هناك تقدما يفتح الطريق للتفاهم وتنفيذ ما اتفق عليه.
التفاهمات التي جرى التوصل لها تتعثر وتواجه مطبات تقف عائقا أمام تنفيذها. الاتفاقات ومسوداتها التي أعلن عنها لم تر النور، لأن من صاغها حرص أن تكون مطاطة. يجد فيها كل طرف ما يريده. إذا أراد أحدهم تطبيق ما فهمه من النص وجد اعتراضا من الطرف الآخر، لأن لديه تفسيرا مختلفا.
الرغبة في التفاوض ليست كافية للحديث عن نية في التوصل إلى حل. أثبتت الحصيلة المتواضعة لمفاوضات سد النهضة في الخرطوم واختتمت فجر الجمعة الماضي، أن مصر وإثيوبيا ومعهما السودان تعلم أن الأزمة معقدة. بل تنطبق عليها المعادلة الصفرية الشهيرة، أي مكاسبي خسائر للطرف الآخر والعكس.
المعادلة قد تصلح في الحرب أو في لعب القمار، لأن التفاوض جزء أساسي منه يقوم على الاستعداد لتقديم تنازلات، التي تتم رضائيا أو تحت ضغوط معينة. ما نراه من ضجيج بين العواصم الثلاث يقول إن الجميع لا يملـك ترف الإعلان صراحة عن فشل المفاوضات، لأن البدائل مخيفة.
في نوفمبر الماضي، أعلنت مصر أن طريق المفاوضات أصبح عسيرا، وألقت بالكرة في الملعب الإثيوبي-السوداني، وحمّلت قيادة البلدين تعثر المحادثات وعدم وضع حلول للمشكلات الفنية. ماذا حدث بعدها؟
الآلة الإعلامية في كل من أديس أبابا والخرطوم، مهدت لتصريحات سياسية وأمنية زعمت أن القاهرة على علاقة مع قوى المعارضة في البلدين، وتدعم الجارة إريتريا، وهي خصم لكل من إثيوبيا والسودان، لشن غزو على الأخيرة من جهة الشرق.
مصر لم تكتف بنفي الاتهامات، ووجهت رسائل حادة غير مباشرة لكل من إثيوبيا والسودان. تمتلك قدرة عسكرية كبيرة تستطيع أن تذهب بها المئات من الكيلومترات.
أوصل استعراض القوة المصرية ومكوناتها التسليحية العالية في جنوب البلاد وفي عرض البحر الأحمر، رسالة إلى البلدين تفيد أن من بين خيارات مصر شن حرب عليهما أو كلاهما لحل المشكلات.
الصعود إلى حافة الهاوية خيار لا تتحمله القاهرة أو أديس أبابا أو الخرطوم. بعدها توالت الاتصالات والوساطات، وانخفض التوتر وعاد الهدوء. التقى قادة الدول الثلاث على هامش القمة الأفريقية في أديس أبابا في 27 يناير الماضي، وفتحت نافذة التفاوض.
عندما تصبح المفاوضات عملية سياسية من الصعوبة أن تؤدي إلى نتيجة لحسم الخلافات، فكلما اقترحت جهة حلا وجدت صدا ومراوغة من الجهة الأخرى، دون أن تنفض الجلسات
جرت لقاءات مختلفة في العواصم الثلاث. تم تحديد موعد للقاء يجمع وزراء الخارجية والري ورؤساء المخابرات والطواقم الفنية في البلدان الثلاث في نهاية فبراير الماضي بطلب من أديس أبابا، تأجل إلى يومي 4 و5 أبريل الجاري.
اللقاء عقد في موعده، لكنه لم يسفر عن تقدم ملموس. مع ذلك خرج المسؤولون في مصر والسودان وإثيوبيا وعلت وجوههم علامات الرضا. كل طرف حقق ما أراده. الهدف هنا لم يكن التوصل إلى حل ينهي أزمة السد. الكل يعلم أنها تحولت إلى قضية قومية في إثيوبيا، ودخلت بورصة المزايدات منذ أعلن رئيس الوزراء الأسبق ملس زيناوي عن المشروع قبل سبع سنوات. في هذا الإطار وظفه خلفه هايلاماريام ديسالين، وركب الموجة ذاتها رئيس الوزراء الجديد آبي أحمد، الذي وصف السد بأنه “موحد الشعوب الإثيوبية”.
هو أيضا أصبح قضية كرامة بالنسبة للنظام السوداني الذي يريد الحفاظ على تحالفه مع أديس أبابا، ولا تترسخ عنه صفة الانتهازية، ويقال إنه عندما تقارب مع القاهرة مؤخرا ضحى بعلاقته مع أديس أبابا، التي ينظر لها قطاع من السودانيين على أنها أكثر جدوى من مصر.
أما بالنسبة للقاهرة، فهو قضية أمن قومي بامتياز. بذلت جهود مضنية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لأن بناء مشروع السد استغل الانسحاب المصري في نهاية عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، واستفاد من الارتباك الذي أحدثته ثورة 25 يناير عام 2011، وما أفرزته من تداعيات سياسية وأمنية في البلاد.
السد وصل إلى نقطة جعلت مصر تفكر في بدائل مائية. وتدخل عصر تحلية المياه على نطاق واسع، ما يعني أنها استسلمت للأمر الواقع. كل ما تريده التفاوض بهدف تأخير مدة ملء خزان السد بالمياه لتصل إلى سبع سنوات لتأجيل المعاناة. إثيوبيا ترفض ذلك، وأقصى ما يمكن أن تقدمه هو التأخير لخمس سنوات، وكأن التداعيات التي يؤدي لها في المستقبل ليست مؤثرة.
القناعة الظاهرة في الخطاب السياسي للدول الثلاث، تبدو منصبة على وقف التصعيد، لأن المنطقة لا تتحمل صراعا مدمرا. وجدوا أن الحل في التفاوض، الذي كلما اختنق لقي من يمده بالأوكسجين، من قيادات الدول الثلاث أو أصدقائهم. المهم ألا تصل المحادثات إلى حد الاعتراف أنها ماتت إكلينيكيا.
المشكلة تكمن في أن عملية بناء سد النهضة تسير بالتوازي مع المفاوضات، وتم إنجاز نحو 60 بالمئة منها. استمرار المفاوضات دون تقدم يؤكد أن البناء سوف يكتمل قبل التوصل لاتفاق لحل الأزمة. يومها لن تصلح المفاوضات، بعد أن حققت غرضها كعملية سياسية. وقتها مصر تعلن أنها قامت بما يجب عليها القيام به في ظروف صعبة، وامتصت غضب الرأي العام. السودان حافظ على ما يعتبره كرامة سياسية. إثيوبيا حققت مشروعها القومي.
بقلم:محمد أبوالفضل
صحيفة العرب / بريطانيا.