ذكرت في نهاية المقالة السابقة، أنني سوف أتعرض في مقالتي الثالثة، هذه، إلى الاعتراف العملي بنظام الانقاذ، من قِبَل الأحزاب السياسية، في مقابل تحول خطابها النظري، الذي أصبح يدعو إلى اقتلاع النظام القائم من الجذور. لقد كانت الأحزاب السياسية عليمة، على الدوام، بضعف تأثيرها على الجماهير. ولا غرابة في أنها لم تراهن قط على تلك الجماهير، لأنها، أصلا، لم تستثمر فيها، كما ينبغي. وقد ذكرت في الحلقة الماضية كيف أن هذه الأحزاب حاولت تقويض نظام نميري عسكريًا، مرارًا وتكرارًا، وحين عجزت، صالحته، بل وشاركت في مؤسساته. فالأحزاب التي ظلت تشك في قدرتها على تحريك الجماهير، وعلى جعلها الحارس الوحيد للنظام الديمقراطي، أبقت عينها مصوبة، دومًا، على خيار السلاح، الذي لم تستطع تنجز فيه شيئا يذكر. ولذلك، لم يكن غريبا، أيضًا، أن اعتمد التجمع الوطني الديمقراطي، على بندقية قرنق، حين انخرط في معارضة نظام الانقاذ، في عقد التسعينات من القرن الماضي. بل جعل التجمع الوطني الديمقراطي، من قرنق مفاوضًا باسمه.
بعد أن شهد قرنق، على مدى سنوات عديدة من التجربة، خلافات التجمع، وتناقضاته، وألمَّ، بدقة بتباين الأجندة بينه وبين مكونات التجمع، أدار ظهره للتجمع. لم ينجح التجمع، وهو المعارض من خارج الحدود، في خلق ذراع عسكري، كما لم ينجح في الداخل في تحريك الجماهير للثورة. وهناك الكثير من التفاصيل في العلاقة الشائكة، المضطربة، بين حركة قرنق والتجمع الوطني الديمقراطي، لا أود أن أشغل بها القارئ الكريم، هنا. وقد توفر على رصد هذه التفاصيل، كل من الدكتور، سلمان محمد أحمد سلمان، ودكتور الواثق كمير، والأستاذ، فتحي الضو، وغيرهم، فليراجعها من يشاء.
باتخاذ قرنق مسارًا تفاوضيًا خاصًا به مع النظام، أضحت المعارضة الشمالية، الممثلة في التجمع الوطني الديمقراطي، معزولةً، بل، ومهملةً، من قِبَل قوى الإقليم والقوى الدولية. وفي 18 يونيو 2005 وقَّع التجمع الوطني الديمقراطي مع نظام الانقاذ، ما سُمِّي “اتفاق القاهرة”. وأصبح التجمع، من ثم، ملزَمًا، بمرجعية اتفاقية السلام الشامل. وبناء على الاعتراف بتلك المرجعية، والتوقيع بمقتضاها، اعترفت قوى التجمع الوطني الديموقراطي، الموقعة، بنظام الحكم، مثلما اعترف به المجتمع الدولي. واعترفت، من ثم، بكل المؤسسات والمفوضيات التي نصت عليها الاتفاقية. ويأتي على رأس تلك المؤسسات الهيئات التشريعية القومية، المتمثلة في المجلس الوطني الانتقالي ونظيراته المسماة مجالس الولايات التشريعية. وقد أقر التجمع، “بالإجماع”، المشاركة فيها، بهدف تنفيذ اتفاق القاهرة، والعمل على تحقيق التحول الديمقراطي، عبر الصراع السياسي السلمي في الداخل. وكانت نسب التمثيل في برلمان نيفاشا، كالآتي: 52% للمؤتمر الوطني، 28% للحركة الشعبية، 14% للقوى السياسية الشمالية، 6% للقوى السياسية الجنوبية. وقد كان ضعف تمثيل القوى السياسية الشمالية متناسبًا مع وزنها الحقيقي في قدرتها على الضغط على الحكومة. ومع ضعف ذلك التمثيل، شاركت عدد من الأحزاب في الجهاز التنفيذي، على مستوى المركز والولايات، في حين تحفظ حزب الأمة (الصادق المهدي)، والشيوعيون.
برر السيد، محمد إبراهيم نقد، السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني، عدم المشاركة في الجهاز التنفيذي، في الفترة الانتقالية، بقوله: “بما أننا لم نكن طرفاً في الاتفاقية، وبما أن النسب التي خصصت للقوى السياسية هي نسب ضئيلة حقيقة، إذن، ومن حيث المبدأ، ومن الناحية العددية، يكون رفض المشاركة التنفيذية”. لكنه، برر مشاركة حزبه في البرلمان، بقوله: “وفي وجود الدستور، لك الحق أن تكون معارضة دستورية، وليس معارضة خارج القانون، بل معارضة في إطار الاتفاقية. وعلى هذا الأساس اخترنا المشاركة في الأجهزة التشريعية؛ سواء البرلمان المركزي أو البرلمانات الولائية”. (محمد إبراهيم نقد في حوار نشرته صحيفة الرأي العام، في 19 نوفمبر 2005). وأردف نقد، في تبرير المشاركة في برلمان نيفاشا، بقوله: “داخل البرلمان أنت تصوِّت، وقبله تنتقد، فإذا كان انتقادك موضوعيًا، ويخلص إلى بديل أفضل، فإن هذا يصل الشارع، ويساعد في التنوير السياسي، ويساعد في توسيع نفوذك السياسي”. وسار في تلك الوجهة، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، سليمان حامد، الذي قال: “الحزب قرر دخول المجلس الوطني والمجالس الولائية، ليتمكن من إسماع صوته للجماهير والتعبير عن مصالحها”، (راجع: أحمد الحاج، طريق الحزب الشيوعي للخروج من البرلمان الانتقالي، “الحوار المتمدن”، 7/10/2007). لقد كان تسبيب كل من محمد إبراهيم نقد، وسليمان حامد، للشراكة في برلمان نيفاشا، بأن تلك الشراكة تتيح لحزبهما فرصًا ثمينة للعمل وسط الجماهير، تسبيبًا صائبا. لكن، فإن آخر شيءٍ، يمكن للمرء أن يفكر في البحث عنه، في مسلك الأحزاب السياسة السودانية، هو التزام المبدئية، والحرص على اتساق المواقف وانسجامها.
الشاهد مما تقدم، أن نظام الإنقاذ، الذي نكرهه جميعًا، ونتمنى زواله في أقرب لحظة ممكنة، وجد شرعيته من قبل المجتمع الدولي وفق اتفاق نيفاشا، فهو الشريك الرئيس لحركة قرنق في إدارة الفترة الانتقالية، وهو القوة الضامنة على أرض الواقع السوداني، لتنفيذ بنوده، التي تضمنت إجراء الاستفتاء على حق تقرير مصير الجنوب، عند نهاية الفترة الانتقالية. لقد عجزت أحزاب التجمع الوطني، أن تخلق لنفسها، في فترة المعارضة السابقة لاتفاق نيفاشا، رأس المال السياسي، والوزن المعتبر، الذي يجعل منها شريكا ثالثًا، ذا وزنٍ مؤثر، في الفترة الانتقالية. فالخوف من الخروج على مقررات المجتمعين الدولي والإقليمي، ومن ثم، السقوط في دائرة العزلة السياسية، هو الذي جعلها توقع، بالإجماع، على اتفاق القاهرة. وهكذا منحت أحزاب التجمع نظام الإنقاذ شرعيته، من الناحية العملية، إذ قبلت الدخول في برلمانه. والذي ظلم الأحزاب، في الفترة الانتقالية، هو ضعف كسبها السابق للفترة الانتقالية، وليس أي شيء آخر. وهو ما لا ينبغي أن تلقي باللائمة فيه على أحدٍ، سوى نفسها. وقد برهن مسار الأحداث في الواقع العملي، قبل وبعد توقيع نيفاشا، أن رهان الأحزاب، وعلى رأسها الحزب الشيوعي السوداني، على حركة قرنق، كان رهانًا ممعنًا في الخطأ.
كان في وسع أحزاب التجمع أن تصر على المواصلة في العمل السياسي التنافسي في مواجهة المؤتمر الوطني، رغم ما تأكد من تزوير في انتخابات 2010. لكن أحزاب التجمع آثرت الانسحاب، متحججةً بتزوير الانتخابات، وبعدم تكافؤ الفرص. غير أن الفرص لا تجيء، في مثل هذا الوضع الشائك، على طبقٍ من ذهب، وإنما تُخلق خلقا. فمشكلة المعارضة لدينا، عبر كل تجاربنا مع الأنظمة العسكرية، أنها تتصور أن المجال سوف يُفسح لها، لتنتقل من المعارضة في الخارج، إلى كراسي الحكم مباشرة. كان في وسع التجمع أن يواصل نشاطه، بعد انتخابات 2010، وسط قواعده، وأن يمارس نقدًا ذاتيا يتلمس فيه الأسباب التي جعلت منه شريكًا ضعيفا في الفترة الانتقالية. ثم، يعمل على ربط مكوناته ببعضها، بصورة أكثر إحكاما، وعلى أن يخلق برنامج حد أدنى ملزمًا للجميع، بلا استثناء. لو فعل التجمع ذلك، وسلك طريقًا جماعيًا، متحدًا، في مواجهة نظام الانقاذ، لربما كان وزنه، ككتلةٍ معارضةٍ، متماسكةٍ، أفضل، بما لا يقاس مما هو عليه حاله اليوم، من الضعة، والشرذمة، وافتقاد زمام المبادرة.
لا تتجه دعوة السر سيد أحمد، ولا تعضيدي لها، إلى القول باستحالة إزاحة نظلم الانقاذ. فهو قد يسقط في لحظة، تحت وطأة ثقله الذاتي، كما كررت ذلك مرارا. كما أن مسلسل الأزمات، التي لا تنفك تتسع وتتعمق، ربما أوصل الأحول إلى ثورة جياع شاملة، تنتهي، بعد عنف فظيع، إلى انهيار النظام. فالتحدي لا ينحصر في كيفية إسقاط النظام، وإنما في إيجاد ما يملأ “فراغ القوة”، power vacuum، إن هو سقط، بثورة شعبية، أو بانقلاب عسكري جديد، أو بكليهما. المشكلة الحقيقة، بل والحالقة الكبرى، هي أن يسقط النظام، ونسقط، جميعًا، معه، في أتون الفوضى الشاملة والعنف، لسنوات، وربما لعقود.
نتيجةً للعنف والفوضى الشاملة المستطيلة، سوف تنشأ دينامياتٌ جديدة، مختلفة تماما عما كنا نعرف، من قبل. وأي قراءة علمية، موضوعية، مبصرة، لأحوال السودان الآن، سوف تشير، دون شك، إلى أن ديناميات العنف الشامل، مؤكد الحدوث، سوف تقود الأمور، جميعها في مسار آخر. أعني، مسارًا مغايرًا تمامًا، لكل ما راكمناه من تصورات حول مستقبلٍ أفضلٍ للبلاد، بناءً على ما نعرفه لها من ماض، وإرث حضاري، ومن مكونات، ومن وعود كامنة في بناها التاريخية، والطبيعية، والبشرية، والثقافية. فالاحتفاظ بتماسك كيان الدولة، رغم ما هو حادثٌ حقيقةً من تردي الأحوال، هو رأس المال الرئيس، الذي ينبغي الحفاظ عليه. فتماسك الدولة هو الأرضية الوحيدة، التي تتيح إنبات أشجار الأحلام المستقبلية. فإن اهتزت هذه الأرضية، اهتزازا تكوينيا، شاملا، فلا مكان لإنبات حلم، من أي نوع.
سأناقش في المقالة القادمة التجريف الهائل الذي أحدثه النظام في القوى السياسية، وفي قوى المجتمع المدني، وفي الديموغرافيا، وفي بنى القوى العسكرية، وفي البناء النفسي والخلقي للنخب، وللعامة. كما سأناقش كيف أن الأحول الراهنة لن تسمح، في حالة سقوط النظام، بفترة انتقالية هادئة، منتجة.
بقلم:د. النور حمد
سودان تربيون.