عندما زرت المملكة المغربية في فبراير الماضي، حمدت الله أن بلادي )السودان( كانت من نصيب بريطانيا، فما دخل الفرنسيون بلدًا إلا وفرنسوه بالعافية، ومازالت تونس والجزائر والمغرب تشهد معارك بين المتفرنسين وأنصار التعريب، والمصيبة في المغرب أن معظم اللافتات في الأماكن العامة بالفرنسية فقط.
لم يحاول البريطانيون طمس هوية المواطنين في السودان، أو محاربة اللغات المحلية بما فيها اللغة العربية، رغم أنهم جعلوا الإنجليزية لغة الدواوين الحكومية، وبالطبع فقد كان للاستعمار البريطاني لبلادنا بعض الآثار السلبية المدمرة، ومنها خلق حساسيات قاتلة بين شمال البلاد وجنوبه، )انتهت بانفصال الجنوب وقيام دولة مستقلة فيه في يوليو 2011، ولم تكن حكومتنا الحالية أصلا راغبة في بقاء الجنوب جزءا من السودان،(، ومع هذا لم يفعل البريطانيون في بلادنا 1% مما فعلوه في الهند، حيث كان كبار الإداريين البريطانيين يرغمون المواطنين الهنود على حملهم على أكتافهم وهم يجلسون على محفات، ولو حاول بريطاني مهما علا شأنه أن يطلب من سوداني أن يشيله على كتفيه، لما نزل منهما حيا، ولهذا تم تحذير الإداريين الاستعماريين بتفادي الغطرسة عند التعامل مع السودانيين.
ولكنني أعتقد أن أكبر خازوق صنعه الإنجليز في الهند هو لعبة الكريكيت، حيث يرمي شخص مصاب بلوثة عقلية كرة صلبة، باتجاه شخص عبيط يقف في مسارها، فيحاول تفاديها بضربها بمضرب خشبي فيتبارى عدد من الرجال البلهاء لالتقاطها، والمباراة الواحدة من هذه اللعبة المنتشرة وبائيًا في الهند وباكستان وبنجلاديش وسريلانكا والكاريبي – وعلى الرغم من رتابتها القاتلة – تستمر خمسة أيام وربما شهرًا كاملاً، يتفرغ خلالها جمهور المشجعين إلى التأوه والوحوحة والصراخ، علمًا بأن تشجيع لاعبي الكريكيت يتطلب التفرغ الكامل، ولو قالوا لوزير دفاع الهند أثناء مباراة في الكريكيت، إن باكستان اجتاحت كشمير لصاح غاضبًا: وهل هذا وقت كشمير يا غبي؟
كما لا يفوتني أن أتوجه بالشكر الجزيل لبريطانيا لعدم تفكيرها في تعليمنا نحن في السودان لعبة الرجبي، التي لا يمكن أن يشارك فيها إلا شخص مجبول على الشر والعنف، لأن العنصر الأساسي في اللعبة، كما هو الحال مع الفوتبول الأمريكي، هو إلحاق أكبر قدر من الأذى بلاعبي الفريق الخصم، ولهذا لا يمكن ان يمارس لعبة الرجبي إلا شخص ضخم الكراديس عريض المنكعين شلولخ )كما وصف عادل إمام قاتل الراقصة الذي لم يره قط، في مسرحية »شاهد ما شافش حاجة«(، وعند ارتطام اللاعبين ببعضهم البعض مع بداية اللعبة، يسجل مقياس ريختر للزلازل 5.2 درجات.
خلال عملي في السفارة لبريطانية في الخرطوم، كان الدبلوماسيون البريطانيون مبسوطين مني، لأنني لم أكن أستخدم المصعد الكهربائي، بل أطلع وأنزل بالسلم أو الدرج، وصولا إلى الطابق الرابع عدة مرات في اليوم، وكانوا يحسبون أن مرد ذلك أنني شخص نشيط ومحب للرياضة والحركة، في حين أنني كنت أتفادى المصعد خوفًا منه، ليس لأنني أعاني من كلوستروفوبيا وهو الخوف من الأماكن الضيقة والمغلقة، بل بسبب معاناتي من التكنوفوبيا وهو الخوف من كل ما تدخل التكنولوجيا في تكوينه.
المهم أن مستشار السفارة عرض علي ذات يوم أن أمارس معهم لعبة الجولف، وذهبت معه يومًا إلى الملعب، وهذا ما رأيت بالعين المجردة )كنت قبلها قد شاهدت اللعبة في السينما والتلفزيون(: يقف رجل طويل عريض يحمل عصا أحد طرفيها محدودب، ويلقي نظرة على كرة صغيرة بائسة ثم يتلفت في الجهات الأربع وكأنه يفكر في غزو القطب الجنوبي، ويضرب الكرة بعيدًا، ثم يركب سيارته ليبحث عنها، وخلال نحو ساعتين يستخدم المضرب مرتين، ويكون هناك حمّال يسير معه حاملا كوكتيلا من العصي، ثم يزعم »اللاعب« أنه مارس الرياضة، فقلت للمستشار إن أكل الفول بالشطة يعتبر من ألعاب القوى مقارنة بالجولف، لأن الشطة وبالتأكيد تحرق سعرات حرارية في اللقمة الواحدة أكثر مما تحرقه عشرين ضربة بعصا الجولف.
المهم أن بريطانيا لم تورطنا في الكريكيت والرجبي، بل عملت على تكوين ناديين لكرة القدم، وحزبين طائفيين لكل منهم جماهيرية كبيرة، فإذا فشلت الأحزاب في مهامها تبقى »البركة في الكورة«.
زاوية غائمة
جعفــر عبــاس