عطفا على مقالي ليوم الأمس أواصل تقديم نفسي لقراء لم يقرأوا لي إلا مؤخرا:
دخلت دنيا الإعلام والصحافة بالعرض وبالعافية: مدرس لغة انجليزية تحول الى مترجم والترجمة قادته الى الصحافة، وهذا إنجاز غير عادي، فالصحافة في العالم العربي تتطلب قدرا كبيرا من الحصافة، يعني يجب ان تحسن المشي على العجين دون ان »تلخبطه«، وتمشي على حبل السيرك دون ان تقع: أي هفوة وتجد جزءا من راتبك قد طار، وهفوة أخرى وتجد أنك من طار، هذا إذا نجوت من الشرطة، والسين والجيم، وجمعت بين الحرفين وصرت »سجين«. ولكنني كنت حسن الطالع، وكان والدي يؤكد لي دائما أنني »ولد مبروك« بعد ان نال علاوة قدرها ثلاثة جنيهات في نفس الشهر الذي ولدت فيه )اظن أنها كانت ثلاثة قروش، ولكنه زاد العيار لتأكيد مبروكية ابنه(.
وصلت الى ابوظبي للعمل في مؤسسة الاتحاد للصحافة، وكانت بدايتي فيها في صحيفتها الانجليزية »إمارات نيوز« كما قلت في مقالي السابق، وقضيت ليلتي الأولى في فندق، وفي صباح اليوم التالي وجدت الدنيا مقلوبة: العراق هاجم إيران، واشتعلت الحرب بين البلدين أكثر من 8 سنوات كما هو معروف! يا ما أنت كريم يا رب. فعلا ابو الجعافر شخص مبروك كما زعم والده.
الصحافة تزدهر بالكوارث والمشاكل، ومنذ اليوم الأول لالتحاقي بمؤسسة الاتحاد تلك ارتفع توزيع مطبوعاتها بنسبة تفوق 100% بسبب الحرب التي اشتعلت بـ»بركات« ابو الجعافر، وبقيت في المؤسسة طوال سنوات الحرب وغادرتها فور انتهاء الحرب بعد ان حلفت بالطلاق ألا أعمل صحفيا بأجر لدى أي جهة.. صحفي متعاون؟ لا مانع، ولكن ان أكون ملزما بالذهاب الى مقر صحيفة والجلوس هناك ساعات وساعات؟ يفتح الله! والسبب في ذلك ان السهر في الجريدة أتلف ساعتي البيولوجية، وأصبحت أحيانا عاجزا عن النوم يومين متتاليين، وعدم النوم يسبب بلبلة وتشويشا ذهنيا للإنسان العادي فما بالك بتأثيره على شخص مثلي يقال انه »مش طبيعي«؟ نعم فبعض الحاقدين يشككون في قواي العقلية، بل هناك من يتهمني بأنني حشاش! »حشاش ب دقنه«؟ مقبولة، )تقال هذه العبارة في السودان في حق من يتكلم ولا يعمل، وأصلها أن مزارعا كان يقول لصحبه إنه سيقوم »غدا« بحش/ قص المحصول من هنا الى هناك، ويشير الى الاتجاهين بذقنه، ويمر يوم تلو الآخر ولا يحش شيئا(، المهم انني كشخص مستعرب بتاع تنظير وخطط غير قابلة للتطبيق، وأؤجل عمل اليوم الى السنة المقبلة، ولكن حشاش بانقو والذي منه؟ حاشا!
المهم أنني طلقت الصحافة التي تتطلب السهر الطويل ليلا، وقلبي مع المتزوجات بصحفيين وأطباء: منتهى النكد ألا تعرف الزوجة متى سيعود زوجها الى البيت، وأن تشتاق وعيالها الى تناول العشاء معه، وقليلا قليلا »لآ تفرِق« معها إذا عاد بعد منتصف الليل أم صبيحة اليوم التالي لاستبدال ملابسه ثم مغادرة البيت لأداء مهمة رسمية.
المهم: انتهت الحرب العراقية الإيرانية بالتعادل السلبي، وانتهت علاقتي بالصحافة المكتوبة كوسيلة لأكل العيش، وكما قلت فقد كان السبب الرئيس لطلاقي للصحافة هو اختلال ساعتي البيولوجية من السهر في الجريدة، وفاض بي الكيل عندما كنت المحرر السهران، أي المسؤول الأوحد عن الشكل والصيغة النهائية للصفحة الأولى، وفي نحو منتصف الليل شالتني نومة.. وفتحت عيني فوجدت الصحيفة خالية من البشر، فقد كانت الساعة نحو الثامنة صباحا، وعدت الى البيت متثاقلا وأنا أحمل عددا من الصحف وطالعت في أحدها خبرا بالطول والعرض عن تدمير طائرات عراقية لسفينة حربية امريكية في الخليج، مما أسفر عن مصرع العديد من المارينز.. يعني النومة أضاعت عليّ خبرا خطيرا تناقلته صحف الدنيا وكلفتني تلك النومة شرشحة وبهدلة على لسان رئيس التحرير.
أرجو ان اكون قد وفقت في تقديم صورة قلمية عن نفسي لقراء هذه الصحيفة ليعرفوا انني صحفي من أرباب السوابق و»الكرامات«.
زاوية غائمة
جعفر عبـاس