نوبات الجنون
-1- قبل أن تهبط الطائرة في مطار العاصمة الرواندية كيغالي، كانت كثيرٌ من الصُّور والتأمُّلات تعبر في الذاكرة.
كيجالي تلك المدينة التي شهدت أسوأ حرب أهلية في التاريخ المُعاصر.
في 100 يوم، تمَّ قتل مليون شخص، في الصراع القبلي بين الهوتو والتوتسي.. كان القتل يتمُّ على الهوية، شكل الأنف، والبطاقات الشخصيَّة، التي تُحدِّدُ الانتماء وتُقرِّرُ مصير النهاية رمياً بالرصاص، أم ذبحاً بالسكاكين اللامعة.
قتل البعض جيرانهم، وقتل آخرون زوجاتهم وأبناءهم، لأنهم من القبيلة الأُخرى.
كان الإعلام هو المُؤجِّجُ لذلك الصراع، عبر الإذاعات المحلية التي كانت تصف أبناء قبيلة التوتسي بالصراصير الإثيوبية، وتدعو لسحقهم.
كارثة إنسانية وقف العالم أمامها عاجزاً.. الجنود البلجيكيُّون لاذوا بالفرار، والفرنسيُّون اهتمُّوا بحماية أنفسهم، والأمريكيُّون ظلُّوا على الحياد، فهم لم يتجاوزوا ما حدث لهم في الصومال في مُستهلِّ التسعينيات.
-2-
مرَّت كُلُّ تلك الأحداث بخاطري، ونحن نقترب من الهبوط في مطار كيجالي، للمُشاركة ضمن وفد الرئيس عمر البشير في القمة الاستثنائية للاتحاد الإفريقي، لإنشاء المنطقة الإفريقية الحُرَّة.
المشروع طموحٌ، ويهدف إلى خلق وحدة اقتصادية مُشابهة للتجربة الأوروبية، وهو أكبر تجمُّع اقتصاديٍّ في العالم، حيث وقَّعت عليه 50 دولة إفريقية من أصل 55 دولة.
في الطريق من المطار إلى الفندق، كانت ملامح كيغالي وأنفاسها، تبدو في غاية الروعة والجمال.
مدينة كاملة النظافة، كُلُّ شيء فيها مُنظَّم بدقَّة احترافيَّة بديعة، منحتها الطبيعة أروع مُنتجاتها الجمالية، خضرة على امتداد البصر وسحب مُتهطِّلة لا تكفُّ عن مغازلة الأرض.
واكتملت اللوحة بالإدارة الرشيدة النظام، والترتيب والمتابعة والمراقبة، وحسن سلوك المواطنين.
الرئيس يبدأ كُلَّ صباح تنظيمَ حديقته وتنظيفَ أمام منزله قبل مغادرته إلى العمل.
استحقَّت كيجالي جائزة الأُمم المتحدة عام 2015، كأجمل وأنظف عاصمة إفريقيِّة.
-4-
في كُلِّ زياراتي للمدن الإفريقيَّة والعربية، لم أجد أنظف من هذه المدينة، ولا توظيفاً أمثل لمنح الطبيعة مثل ما هو حادث في كيغالي.
شعبها هادئ، لا تكاد تسمع له صوتاً، لم تُلامسْ أذناي مُنبِّهات السيارات الصوتية، رغم صعوبة الحركة مع الازدحام وإغلاق الطرقات المُترتِّب على انعقاد القمة الإفريقية.
سألت نفسي ومن معي: كيف أنتَجَ هذا الشعب الهادئ الصبور في بلد بهذه الروعة الجمالية، تلك الكارثة الإنسانية المُريعة؟!
وكيف لهذا الشعب الذي أنتج تلك الكارثة، أن يُنتج هذه النهضة البائنة للعيان والتي تُؤكِّدها الأرقام؟
ارتفع النمو الاقتصادي في رواندا %7 خلال 2014، وزاد عدد السياح الزائرين لها من 105 آلاف سائح سنة 2000، إلى ما يقارب المليون سائح سنة 2014.
ومن المتوقع أن يتواصل ارتفاع مستوى النُّموِّ الاقتصاديِّ على المدى القصير والطويل للاستثمارات العامة والخاصة، مع انتعاش الزراعة والخدمات والسياحة.
-5-
من الواضح أن الشعوب، كالأفراد، تعتريها نوبات جنون، فترتكب ما هو مناقضٌ لطبعها ومسلكها من فظائع غير مُتوقَّعة.
هذا ما حدث للشعب الرواندي، ولكنَّه الآن استطاع أن يتجاوز تلك الأزمات والمشاعر السالبة، التي كانت تُسيطر على المجتمع، والتي انتهت إلى الحرب الأهلية البشعة.
تحرص رواندا في مثل هذه الأيام من كُلِّ عام، على إحياء ذكرى مأساة الإبادة، وترعى المتاحف التي تُؤرِّخ لتلك الفترة الدامية في تاريخ رواندا، وتُنظِّمُ الملتقيات الثقافية لتُصالِحَ أطياف المُجتمع الواحد.
-6-
ما حدث في روندا من فظائع في منتصف التسعينيات، وما يحدث الآن من نهضة وازدهار، جعل البعض يُفكِّر كثيراً: هل كانت تلك المأساة وذلك الانفجار الداوي للاحتقان القبلي المُستمرِّ منذ الخمسينيات، وبلوغه ذلك المدى من العنف؛ هل كان ذلك محطة ضرورية لإدراك قيمة الأمن والسلام والحرص على الحفاظ عليها؟!
لا أعتقد أننا في الدول ذات التكوينات القبلية والإثنية المتصارعة والمشابهة، في حاجة إلى إعادة إنتاج التجربة الرواندية، حتى نُدرك قيمة الأمن والتعايش السلمي.
-أخيراً-
يكفي أن تكون تجربة روندا مصلاً وقائيَّاً يُقوِّي جهازنا المناعيَّ ضدَّ فيروسات العنف والجنون، وعبرة تُمكِّننا من تجاوز تلك المحطة اللعينة في الطريق إلى السلام الشامل والتنمية المُتكاملة والتعايش الوطني.
بقلم
ضياء الدين بلال