(1)
سيكتب التاريخ غداً أن الطبقة السياسية السودانية، الممسكة بتلالبيب السلطة وتلك التي تعارضها، ربما من بين نظائر قليلة في العالم، أنها تجسّد بامتياز الحالة البروبونية في أعلى تجلياتها، لم تنس شيئاً ولم تتعلم شيئاً مع كل الذي حلّ بالبلاد والعباد جراء حالة التجريف السياسي والاجتماعي، لذلك ظلت أزمات البلاد ومأزقها الوطني تدور في حلقة مفرغة، وتنزلق إلى الأسوأ عاماً بعد عام، ومع ذلك يظل طرفا الأزمة في الحكم والمعارضة متشبسان بسياسة الباب الدوار، بلا كلل ولا ملل، تعيد إنتاج فشلهما بالإصرار على الذهنية نفسها التي لا تزال تؤكد العجز عن استشراف أية أفاق جديدة للخروج من النفق المظلم.
(2)
حالة فريدة تلك التي انتهت إليها الحالة السودانية من العجز غير المسبوق، وهي السمة الوحيد التي تجمع بين الشتيتين، فلا السلطة الحاكمة مع كل قبضتها المستمرة منذ ثلاثة عقود بقادرة أن تحكم وقد تحلّلت روابطها تهزم نفسها بنفسها بسياسات بائرة تجلّت في أكثر من صعيد ليس أقلها حالة الانهيار التي انتهى إليه الاقتصاد السوداني بكل موارده الضخمة وحوّلت البلد الغني إلى منتظر للهبات قروضاً وودائعاً يسأل الدول إلحافاً حتى لم يبق في وجهه مزعة لحم.
(3)
وعلى الجانب الآخر تقف المعارضة على امتداد طيفها تمثّل بامتياز الوجه الآخر من عملة الفشل السياسي، فلئن عجزت السلطة أن تحكم وما يُفترض أن يكون دافعاً لمعارضة فعالة، فقد تبين أن للعجز وجه آخر والمعارضة تفشل أن تقوم بدورها في أن تقدم بديلاً مقنعاً للرأي العام، ينتظر منها خلاصاً ويرى في أطروحاتها مخرجاً، ولكنها هي الأخرى مثخنة بجراح معارك دونكيوشتية عبثية، استبدلت الرهان على الوجود بين الجماهير والقيام بواجبها، لتنتظر حلولاً للأزمة الوطنية يتصدق بها عليها الخارج، ويراهن بعضها على السلاح الذي لم يتسبب سوى في المزيد من المعاناة لغمار الناس.
(4)
والناظر في التطورات الأخيرة في طرفي السلطة والمعارضة يرتد إليه بصره وهو حسير، حين يكتشف مدى حالة العجز والخواء الذي انتهى إليه الطرفان، تاركاً هذا الفراغ العريض من الحيرة أمام السودانيين وهم يضربون كفاً بكف على حظهم العاثر، فلا حظوا بحكومة قادرة على أن تقيل عثرات البلاد والعباد، ولا هم على وعد بمعارضة تحمل لهم أملاً أو بشريات بديل أفضل، لا شئ سوى الإمعان في اجترار الألاعيب نفسها، والمناورات الحزبية الضيقة، والأجندة الذاتية المحدودة التي لا تجد ما يدفع ثمن بوارها سوى الشعب السوداني المكلوم في طبقته السياسية التي فشلت على مدار ستة عقود من الاستقلال أن تجعل من السودان بلداً يستحقه مواطنوه كسائر بلدان الدنيا التي مهما تعقدت مشكلاتها فقد حظيت بقادة استطاعوا أن يهدوها سواء السبيل.
(5)
ومن يتابع مجريات ما حدث في العاصمة الفرنسية باريس في اجتماع قوى نداء السودان، وتلك التطورات التي تشهدها دوائر الطبقة الحاكمة في السودان والتغييرات الدرامية التي توالت تترى في المؤتمر الوطني والأجهزة التنفيذية، فلن يجد صعوبة في الإمساك بالخيط الرفيع الذي يجمع بين ما يجري في الخرطوم وبين ما جرى في باريس على اختلاف الأماكن وما يبدو من تباعد المواقف، إلا أن المحصلة في النتيجة النهائية هي واحدة عند فحص ما يترتب على ما يبدو من حراك سياسي على جانبي السلطة والمعارضة، إلا أن الحقيقة هي أن الشعب السوداني يقف متفرجاً في هذا السيرك وألعابه البهلوانية الممجوجة التي تعيد إنتاج أزماتها قبل أن تزيد من تعقيد أزمة البلد.
(6)
جاء المجتمعون في تحالف نداء السودان إلى باريس بعد طول بيات سياسي، وفترة كمون حتى نسى الناس أمره في ظل تطورات كثيرة شهدتها البلاد خلال الفترة الماضية، وقد حل التنازع بين مكوناته، والتباغض مع جماعات المعارضة الأخرى، وكان الظن أنه في ظل الأوضاع المتداعية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ستتوافر البيئة المناسبة للمعارضة لتتقدم بأطروحات بديلة تلهم الشارع العريض وتدفعه للضغط من أجل التغيير، ولكنها وقفت تتفرج لا تفعل شيئاً إيجابياً واحداً يتطلبه دورها التي انتدبت نفسها له، وبقيت تنتظر تتفرج تتسقط أخطاء السلطة الحاكمة المتراكمة وتكتفي بالتعليق عليها، وترجو أن يهبط عليها تغييراً من السماء مناً وسلوى بلا عمل لازم تقدم به نفسها، تنتظر أن يتبرع لها النظام بتغيير نفسه بنفسه.
(7)
والمآخذ كثيرة على اجتماع تحالف نداء السودان بباريس ومخرجاته، ذلك انه لم يغادر المحطة نفسها التي قبع فيها طوال السنوات الماضية منذ تأسيسه، ويأتي في أولها بلا جدال وكمسألة مبدئية لا تقبل القسمة على اثنين إصراره على الاستمرار في البحث عن حل للأزمة الوطنية بأيدي خارجية، وهذا الرهان على الحلول الخارجية خاسر بإمتياز، ولا يمكن تبريره، ولا يقوم عليه دليلاً إلا الفشل في إقناع أو تحريك الشعب السوداني ليأخذ قراره ويحدد مصيره بيده، فلا أحد في الخارج ولا أي طرف آخر سيقدم دعماً من أجل سواد عيون التغيير، والدول ليست منظمات خيرية تقدم عوناً لا ترجو به إلا وجه الله، وقد أثبتت التجربة أن هذه الدول نفسه التي تقدماً دعماً لمعارضة النظام، هي نفسها أول من تقدم له يدها إذا رجت عنده مصلحة، ولذلك يظل الخارج يتلاعب بالحكم والمعارضة معاً يميل إلى هذا الطرف حيناً، ثم يظاهر الطرف الآخر أحياناً، وفي كل لا يرجو إلا مصلحته.
(8)
لقد كانت في اتفاقية نيفاشا عبرة كافية لمن أراد أن يعتبر من القوى السياسية السودانية، تقاتل السودانيون في حرب أهلية عبثية لنصف قرن كانت هي أطول حروب القارة الأفريقية وعجزوا أن يجلسوا معه بعضهم ليجدوا حلاً وطنياً، وكانت المفارقة أن المرتين التي جرت فيها محالة تسوية سلمية تمت بأيدي خارجية، في اتفاقية أديس أبابا 1972، واتفاقية نيفاشا 2005، فماذا كانت النتيجة عادت الحرب في المرة الأولى بعد بضع سنين، وأنتجت التسوية الثانية تقسيم البلد إلى دولتين فاشلتين بامتياز أعادتا إنتاج أزمة بينهما وفي داخلهما، فماذا نفع الدور الخارجي البلاد في المرتين، غياب الحلول الوطنية للأزمة الوطنية وانتظار الحلول الخارجية لا تحتاج لإثبات، ومن عجب أن كل القوى السياسية السودانية في الأغلب انخرطت في النظام السياسي الذي أنتجه تسوية نيفاشا فماذا كانت النتيجة.
(9)
كم كان مؤسفاً أن تخرج قوى نداء السودان من اجتماعها متقهقرةً عشرات الخطوات للوراء لتقف عند محطة وساطة الاتحاد الأفريقي التي ماتت وشبعت موتاً، ولم تحقق إنجازاً واحداً على مدار عقد من الزمان دارت محاولات تسوية الأزمة السودانية تحت إطارها، لقد كان غريباً أن ينعي اجتماع باريس ما أسماه تنصل النظام عن خريطة الطريق الأفريقية، وكأنها لا تزال صالحة طريق وحيداً للخروج من نفق الأزمة، وكانت الأغرب ان ينتظر قادة التحالف المعارض الآلية الأفريقية الرفيعة المستوى بقيادة الرئيس ثابو إمبيكي لتجدد دورها، وكأنه كان بوسعها فعل شئ حقاً ولم تفعل، ولئن أفلحت الحكومة في توظيف الوساطة الأفريقية لصالح أوراقها وتمرير أجندتها، فما الذي يمكن ألأن تجنيه المعارضة من الإصرار على العودة إلى هذا الطريق المسدود.
(10)
لم يفلح البيان الدستوري ذو النقاط الست بتفريعاته الذي خرج به اجتماع باريس، التي لم تخلو من تناقضات اقتضتها توازنات المساومات بين أطرافه، في تقديم أية أطروحة جديدة تخرج المعارضة من ثبات أهل الكهف، ما لم تغادر محطة انتظار حلول الخارجية، والرهان الخاسر على استخدم السلاح كوسيلة لتحقيق مطالبة سياسية وقد ثبت بلا جدال عمقه، وقد كان اللجوء للقوة وسيلة لأهم مشروعين سياسيين تسيدا الساحة السودانية في العقود الأربعة الماضية، مشروعا الحركة الإسلامية والحركة الشعبية، ومع اختلاف التفاصيل إلا أن النتيجة واحدة وهي أن القوة السلحة لا يمكن أن تكن بديلاً للمشرعية المدنية الدستورية، وعلى الرغم من ان الحركتين سيطرتا على السلطة معاً وفي البلدين المنقسمين فقد كانت النتيجة الكارثية لهما في باب العلم العام مما لا يحتاج لتفصيل وبالاً عليهما، وعلى البلاد وعلى العباد.
(11)
والفريضة الغائبة في دور المعارضة السودانية هي الخروج على رهان الخارج والسلاح، والقيام بالمهمة التي لا يمكن أن تكون مستحيلة أبداً، الرهان على الشعب السوداني وحده في إنجاز التغيير الذي يستحقه، وهو أمر ليس غريباً عليه وقد فعله حقاً في سابقة مرتين، ولكن بالطبع ليس طريقاً سهلاً مفروشاً بالورود، ولا هو حل سحري يتحقق بلا تضحيات تتقدمها القيادات، لا أن تنتظر متفرجة أن ياتي التغيير بتضحيات الآخرين، على قيادة المعارضة أن تكف عن الوجود خارج البلاد وأن تعود لتمارس مهمتها وسط المواطنين حتى تستطيع إقناعهم بأنهم يستحقون ان يكونوا بديلاً، فليس هناك قيادة مجانية، بلا تضحيات مهما طالت، والمعارضة التي تنتظر من النظام الذي تعارضه أن يهيئ لها أسباب معارضته بمكرمة منه وتفضل لا تستحق أن تسمي نفسها معارضة، وطالما أن النظام يستجيب لمطالبها هكذا عفواً فلماذا تعارضه؟.
(12)
لن تكون هناك معارضة جادة ما لم تستطع الإجابة على السؤال الصعب لماذا هي عاجزة عن إقناع الشعب صاحب المصلحة الحقيقية في التغيير بإنجازه، لا يمكن لأي قمع أو تضييق أو وأد للحريات أن يمنع شعباً إذا أراد الحياة أن ينتصر، أمنحوا الشعب دليل استحقاقكم لقيادته، واستعدادكم لتقديم بديل أفضل، ستجدونه أمامكم.
(13)
ولا يضاهي هذه الصورة البائسة لحال المعارضة العاجزة عن المعارضة إلا ما تكابده السلطة الحاكمة من عجز بيّن من القدرة على إدارة دولاب الحكم في بلد مأزوم تحاصره الأزمات التي تسلم كل واحدة هي أختها لا لسبب إلا أن التكلس في مفاصل السلطة قد بلغ من العطب ما لا يرجى صلاحه، والمفارقة أنه في ظل هذه الأزمات امتلاحقة فإن ما يشغل بال الطبقة الحاكمة ليس النهوض للقيام باستحقاقات التصدي لهذا الفشل المستدام، فالقوم مشغولون بأجندة انصرافية بامتياز من قبيل مستقبل الحركة الإسلامية، والانتخابات، وتشريع دستور آخر وكأن البلاد ينقصها وجود دستور أو مصير حركة سياسية تتحايل لعدم دفع فاتورة رهانها الخاسر.
(14)
وحالة العجز عند المعارضة عن تحريك الشارع الزاهد في رؤيتها بديلاً جاداً، تقابله حالة الإنكار والإصرار على تجريب المجرب وإعادة إختراع الفشل بالذهنية والممارسات نفسها التي أنتجت حالة الإخفاق التام هذه، مع مقاومة عنيفة للتقدم لمربع جديد آخر ليس مكافأة لمعارضيها، ولكنه الواجب والمسؤولية الأخلاقية والوطنية من أجل هذا الشعب المكلوم الذي لبثت قابضة على كل فرص تقدمه لثلاثة عقود، وحتى الحوار الوطني الذي ابتدرته السلطة في محاولة أحسن بها البعض الظن أن تؤسس لحالة وطنية ذات جدوى، انتهى بها الأمر لأن يكون مجرد حلقة أخرى في سلسلة مناورات لا تنتهي من أحجل احتفاظ الطبقة الحاكمة بالسلطة، ولذلك أفرغته من مضمونه وأحالته إلى مشهد مثير للسخرية.
(15)
ولعلها محنة غير مسبوقة يكابدها الشعب السوداني وهو يجد نفسه داخل نفق مظلم وآماله في الخلاص تتبدد بين عجز الحكومة وعجز المعارضة معاً، فهل مع ذلك ثمة ضوء في آخر نفق؟ نأمل ذلك فلا يأس مع الحياة.
بقلم: خالد التيجاني النور
سودان تربيون.