لم يكن أحد من الناس الذين تدافعوا منذ مغيب شمس أمس الأول الأربعاء صوب المسرح القومي بأم درمان يتوقع أن يظهر أبوعركي بكل هذه الصلابة والقوة، رغم الظروف القاسية التي مرت به مؤخراً، بعد رحيل رفيقة دربه في النضال ومشوار الحياة د.عفاف الصادق حمد النيل في أمسية تأبينها، كما أن عركي ذاته خيب توقعات الكثيرين الذين كانوا يتوقعون أن تكون أمسية بكائية، فأحالها عركي بوعيه الكبير إلى أمسية حب للوطن أولاً، ولعفاف ثانيا..فغنى بصوته القوي الذي ملأ فضاء أم درمان، وأعاد إلى العاصمة الوطنية أمسيات الفن النبيل الملتزم بقضايا وطنه..
كانت أمسية التأبين حاشدة بكل ما له شأن بالراحلة (المرأة السودانية الأنموذج) فقد تبارى زملاؤها ومحبوها وأصدقاؤها وابناؤها وأسرتها في تقديم وجه الراحلة لمن لايعرفونها عن قرب، فتحدث قرني واختها نوال الصادق، وعركي وقرني وابنتها عنها، وغنى كورال كلية الموسيقى والدراما وعامر الجوهري، وتم تقديم فيلم وثائقي عن الراحلة.
* لا أعتقد أن المسرح القومي قد استقبل هذا الحشد الجماهيري في الوقت القريب، فقد حسبت أن كل أم درمان والخرطوم لبت نداء (عفاف الطيبة) الذي كان عنوانا لأمسية التأبين، وكان حضور الإعلام المقروء كبيراً، في وقت غابت فيه الفضائيات والإذاعات، بالإضافة إلى كثير من الشعراء والمطربين ورجال المجتمع.
عركي.يغني رغم مرضه..
انتظر الناس إلى ما بعد العاشرة والنصف حتى ظهر أبو عركي البخيت (رفيق درب الراحلة) مرتدياً قميصاً أزرق، ومطلقا لحيته البيضاء، وبدا عليه الإعياء الشديد لمرضه بالملاريا، وأصرَّ رغم ذلك على المشاركة في أمسية (الحب لماما عفاف)، وتحدث عركي بصوته المتهدج قائلاً: في الأصل نحن زول واحد وحرام الناس تشوفنا اتنين..آخر وداع لعفاف قبل 17 سنة قلت ليها يوم رحيلك من البلاد دارك مرصع بالسواد.. بالنسبة لي لما رجعت البيت، لكن يبقى الليلة موشح بالسواد.. معذرة للبحصل..ماعارف أقول شنو بالضبط..الخلتو لينا عفاف نحن بنمشي بيهو لقدام إن شاء الله..أرجع وأقول حقاً كلما تبقى وفاؤك أنت ياشعبي، سأرد جميلك أضعافاً من كبدي، وأرد الصاع صاعين لمن عاداك ياشعبي ..عفاف سافرت من قبل 17 سنة، سافرت وخلت لى محمد ويزن وسيبويه عشان تمشي هناك، عشان تجيب لينا القروش، عشان نربي بيها الأولاد، وترسل القروش للجامعات لغاية ماكونت هذا البيت)، وكان الجمهور يقاطع أبوعركي بالتصفيق لهذا الوفاء النادر.
عركي يقلب التوقعات..
قلب أبوعركي البخيت كل التوقعات والإرهاصات التي كانت تمضي في اتجاه أنه سوف يغني مرثيات لزوجته الراحلة وسوف تكون ليلة بكائية، إلا أن عركي فاجأ الجميع بأغنيته الثورية (غنوا معانا) وأطلق صوته في فضاء أم درمان واهتزت جنبات المسرح بالتصفيق المدوي، وهي تردد معه كلمات الأغنية التي ححجبها التلفزيون القومي بعد آخر عودة لعركي للغناء، وبعدها عاد مرة أخرى إلى مقاطعة الظهور عبر الأجهزة الرسمية، وغنى عركي بكل أعصابه وبكل شجنه، فحول الليلة إلى مناسبة للاحتفاء بالوطن وعفاف، بدلاً عن تأبين زوجته فقط، ثم كأن عركي جمع بين الراحلين في أغنيته الثانية (عن حبيبتي بقول لكم) وربما كان يستدعي سيرة صديقه الراحل سعد الدين إبرهيم، صاحب كلمات الأغنية، أو ربما كان أيضاً يود أن يحكي عن (حبيبته الراحلة عفاف)، خاصة في المقطع الأخير عندما ردد بشجن كبير و(لسة بحكي)، وكان الإعياء واضحاً على ابوعركي وهو يغني، ثم ختم بأغنية (سهرنا الليل، واعتذر للجمهور عن المواصلة بعد أن أحس بالإعياء الشديد، ثم خرج من المسرح مسنوداً على أكتاف أبنائه وسط هتافات الجمهور.
المجهر السياسي.