في عيد الأم ..تحية إلى الأباء

(أقول لي أمي كيف أصبحتي.. وأقول لي أبويا..اديني قرشي).. كان أبي يقول لي ضاحكا وهو يمد يده بقرش الحلوى (وأبوكي ما ينفع يتقالو كيف أصبحت؟).. كنت اخطف القرش وأجري ..لا أتوقف حتى لأقلب سؤاله في ذهني .. صحي ليه ما ينفع أقول له كيف أصبحت.. واطالبه فقط بالنفقة؟ لماذا نسجن الأب في خانة التمويل فقط وننسى كل ما يفعله لنا وتلك البصمات التي يتركها في قلوبنا؟

كان أبي واحدا من غمار الناس.. لم يكن عمدة ولا شيخ حلة.. لم يكن ذا أموال ولا من الذين يكنزون الذهب والفضة.. لكنه كان كريما الى حد التوكل.. كانت أمي رحمها الله تحكي عنه (لو الليلة جاب ليك حاجات الشهر.. وبكرة قلت ليهو البيت فاضي .. ما بيسألك يقول ليك وين الحاجات الجبتها امبارح ؟.. طوالي يمشي يدبر حاله ويجيب حاجات تانية )…. كنا ونحن أطفال نثقل عليه بالطلبات .. وبالأحلام الصغيرة .. أذكر أنني كنت ألح عليه ان يصير تاجرا .. وأرسم له خطة (أنت يا أبوي ما تعمل المخزن بتاعنا دا دكان زي بتاع سيد عبد العزيز.. عشان نشيل منو الحلاوة مجان ما كل مرة تدينا قروش ).. كان يغالب الضحك وهو يقول (كدا مش حنخسر؟ يعني اشتري الحلاوة واجيبها في الدكان ..وبدل نبيعها ..انتي واخوانك تاكلوها مجان)..

لا أذكر أنني رأيته يوما مخاصما امي .. أو معاتبا لها .. كان دائما يشكرها أن احضرت له كوب الشاي أو فرشت له السجادة للصلاة .. كنت أراهما دائما ضاحكين معا .. يتحدثان بالنوبية وهي تحكي له قصصنا خلال اليوم .. لم يحدث ان انتقد يوما طعاما لنا (أنا ونادية أختي ) وقد كنا في بدايات التعلم للطبخ.. كانت أمي تقسم الأيام بيننا.. كل يوم على واحدة وكان دائما ما يجد الأعذار للأخطاء التي نرتكبها.. وياما أكل البامية وهي لم تنضج جيداً.. وابتلع تلك الشعيرية التي (تلبكت) دون أن يوبخنا ..

كان حكيما على طريقته البسيطة.. يحرص مثلا على أن يشرب شاي اللبن في العصرية قبل ذهابه إلى أي مشوار.. قريب أو بعيد.. وكنا نقول له ونحن نستعجل الخروج.. (حنشرب الشاي قدام).. كان يهز رأسه نافيا ويقول (تطلع من بيتك حزين .. تلقى الفرح فين؟) ..الان استعيد عبارته تلك فاجد خلفها تكمن تلك العزة ورفض ربط حاجته باناس اخرين أعطوه او منعوه ..وربما كانت تقديرا لأحوال البشر فهو لا يعلم ظروفهم وهل يمكنهم عمل الشاي له أم لا ..وأخيراً اقرار أن السعادة تنبع من الداخل .. فلو كان منبتك حزينا .. فلن تنفع مسارح العالم في تسليتك. عندما لم يتم قبولي بكلية الطب.. كاد الحزن ان يشقني.. فقد كنت متفوقة طوال سنوات دراستي ..ولم يخطر ببالي ان الأقدار يمكن ان تذهب بي الى طريق مختلف.. أذكر أنه قال لي (لو كل الناس بقوا دكاترة.. مين اللي حيسوق القطر.. ومين اللي حيزرع الأرض ؟؟ الدنيا محتاجة للناس كلهم ) ..قلت له من بين دموعي (بس أنا شاطرة وقريت كويس ) .. ابتسم وقال لي (وخليك شاطرة برضو في المكان القسمو ليك ربنا).

عندما ماتت أمي.. كاد الألم ان يفتك بنا.. فقد مضت دون أن تمهد لنا بمرض طويل ..انسحبت بسلام كما عاشت بسلام.. ذهبت كما تدعو دائما (من القوة للهوة).. يومها رأيته في نومي سعيدا بلحاقها به بعد سنوات.. يحادثها جالسا على سريره المعهود في بيتنا في عطبرة.. وكانت هي في جلستها المعتادة مفترشة المصلاة.. ربما كانت تحكي له عما حدث بعد رحيله.. حينها علمت أن الموت ليس سوى بوابة الى ذلك الشاطئ الآخر.. حيث لا عنت ولا معاناة.. سكنت روحي بعد تلك الرؤيا ..لكن عيني لا تزال تدمع كل ما أتت ذكرى احدهما.

عندما انجبت إبني (أحمد) اسميته تيمنا به.. احتجت خالتي بثينة (الله يطراها بالخير) قالت لي مداعبة (أحمد ود عمتي كان لونه فاتح.. ولدك دا أخدر) ..فعاجلتها أمي (لكنه طوالي مبتسم زي حاج قرناص).. كانت ترى فيه شيئا من أبي لذلك كانت تفضله على بقية اولادي ..وتستمع بصبر لقصصه الطويلة عن مشاكله ومشاكساته في المدرسة وهما يحتسيان (الشاي الاحمر مع البليلة العدسي) ..ولا زالت هذه وجبة احمد ابني المفضلة.
كنت أريد الكتابة عن امي ..فوجدتني اكتب عن أبي ..ربما لأنني لا اتذكرهما الا معا ..ذلك زمن ظلته المحبة والمودة والسكينة…ولم تمد (قوانين الجندر ولا منظمات حقوق الرجل) رأسها في المجتمعات ..فالزمن (كان مبتسم والليالي جميلة حالمة) ..لذلك وددت أن أرفع تحيتي إلى اؤلئك الآباء العاديين.. الذين نمر بهم ولا يثيرون اهتمامنا.. الذين يعملون في المصانع والورش والمزارع.. الذين نقابلهم في الطرقات.. ونزاحمهم في الحافلات.. الذين يبيتون جياعا ليأكل اطفالهم.. يضربون أخماسا في أسداس ليدبروا حق المدارس والمشافي.. الذين يحلمون بغد أفضل لابنائهم.. حاملين شعار (الانكسرت فيني تنجبر في ولدي ).. إليهم جميعا سلامي واحترامي.. وفي عيد الأم أهديكم كلمات الأغنية (أنا في شخصك بحترم أشخاص.. وطبعا عندي احترامك خاص).

صباحكم خير – د ناهد قرناص
صحيفة الجريدة

Exit mobile version