*رئيس القطاع الاقتصادي السابق بالوطني: على الدولة تشجيع تجار العُملة حال استثمارهم في مجال الذهب وتحفيزهم بسعر شراء مُغرٍ حتى لا يلجأوا إلى تهريبه
لم يغبْ الدولار عن (خشبة المسرح) الأحداث حيث سيطر على مجالس المدنية في علوِّه المفاجئ وهبوطه المدوي خاصة بعد تخطيه حاجز الـ(40) جنيه ثم تراجعه إلى ما دون الــ(30) فتحولت الأرباح المهولة إلى خسائر بالجُملة لدى التجار. السؤال الذي يبحث عن الإجابة الآن هو: بعد أن أحكمت الجهات المختصة قبضتها على السوق الأسود للدولار، أين ذهب تجَّار العُملة؟ (السوداني) استنطقت بعض التجار حول (الخطة ب) التي ينتوون تنفيذها بعد الإجراءات الأمنية المشددة فكانت إجابتهم غير متوقعة؛ حيث أعلنوا تغيير مسار نشاطهم التجاري إلى أعمال جديدة مثل العمل في مجال العقارات، الزراعة، تنقيب الذهب وتجارة المواشي.. معاً إلى التفاصيل.
أبرز (3) خيارات اتجه نحوها المضاربون
(1)
العقارات
“عيساوي” تاجر عُملة قال لـ(السوداني) إنه ومجموعة من زملائه تجار العُملة غيَّروا مسار عملهم إلى سوق العقارات والأراضي، حيث قاموا بإيجار مكاتب في الأسواق وبالشوارع الرئيسية للأحياء ونصبوا عليها لافتات بأسماء (فلان) للعقارات بيع، شراء، استبدال، ووصف الرجل تجار الدولار بأنهم عبارة عن (بروليُتاريا مترفعة) بمعنى أن أغلبهم بدأوا عملهم كـ(سِرِّيحة) ولاقوا صنوف المعاناة بكافة أنواعها وأشكالها وبعد فترة من الزمن ابتسم لهم الحظ وصاروا ضمن المضاربين الكبار، وأشار عيساوي إلى دخول التجار سوق العقارات بمليارات الجنيهات الأمر الذي أدى إلى ارتفاع غير مسبوق في سوق الأرضي خاصة المناطق الطرفية في مدن الخرطوم الثلاثة الخرطوم، بحري وأم درمان، مؤكداً أن العمل في سوق العقارات له مزايا كثيرة مثل حرية البيع والشراء في وضح النهار (على عينك يا تاجر) عكس العمل في سوق العُملة، منوهاً إلى سرعة الأرباح ربما تفوق أرباح سوق العملة وحسب قوله (أرباح بيع قطعتي أرض عند كل أسبوع قد تفوق مائة ألف جنيه) وهذا ربما لا يوجد حتى في سوق العُملة.
(2)
المواشي
أما “النذير” فهو نموذج لـ(سِرَّيحة) كُثر كانت تضيق بهم شوارع الخرطوم في مجال السوق السوداء للدولار، وهُم – بالمناسبة – حصدوا مئات الآلاف واشتروا المنازل والسيارات من هذه المهنة الهامشية، حيث أنهم ليسوا بتجِّار، يقول “النذير” لـ(السوداني) إنه ترك العمل بالعاصمة وهاجر إلى إحدى الولايات وبالأموال التي جمعها من تجارة العُملة اشترى (مواشٍ) والآن يشرف على (البهائم) امتلكها، ونوَّه “النذير” إلى أن غالبية التجار الذين يعملون معه هربوا عن العاصمة خوفاً من تعرضهم للسجون والعطالة لأن (السوق واقف) حيث توقفت عمليات البيع والشراء بالخرطوم وأن أقرانه الآن يمتهنون الزراعة وأغلبهم في مجال البصل، والآن يتهيئون لزراعة القمح، ويمضي بقوله إن الحملات التي تقودها الأجهزة الأمنية تعامل معها التجار بمقولة (الخواف رب عيالو)، وقال متحسراً إنه الآن يرعى البهائم في الخلاء وحتى لهجة حديثه تغيَّرت حيث استبدل عبارة (صرف صرف) بـ(تك تك) لتفرقة البهائم من بعضها، وأن مكالماته انحصرت في كمية شحنات الأعلاف التي تحتاجها البهائم، ورداً على سؤالي “هل من عودة للعاصمة حال هدأت الأحوال وخفت المطاردات؟” يقول: (شوف يا زول نحنا في النهاية تجار سوق العملة تجارة والبهائم تجارة وإذا سوق المواشي ضرب معاي تاني الخرطوم فارقتها فراق الطريفي لي جملو).
(3)
(دهب الخزانة)
تاجر عملة فضل حجب اسمه قال لـ(السوداني) إنَّ بعض تجار العملة اتجهوا نحو الاستثمار في مجال الذهب؛ حيث يقوم التاجر بشراء كميات كبيرة من (سبائك الذهب) التي تتفاوت أوزانها من كيلو فما فوق، وأضاف الرجل أن الذهب يُعد من أنجح أنواع التجارة وأنه مثل تجارة الدولار في سرعة الأرباح، وكذلك تعتبر التجارة في الذهب آمنة وتمثل لهم (حفظاً للأموال) من الضياع، وأكد الرجل أن اهتمام تجار العملة بالذهب انصبَّ نحو مدينة الروصيرص بولاية النيل الأزرق حيث توجد مناجم غزيرة بالإنتاج وتشتهر بنقاء الذهب كما أن أسعاره هنالك مناسبة، مشيراً إلى أن بعض السريحة يمارسون أعمالاً حُرَّةً في السوق بمعنى أنهم يبيعون ويشترون كل شيء لحين انفراج أزمة السيولة ومن ثم العودة إلى ممارسة هوايتهم القديمة (صرف صرف)، ونوه الرجل إلى أن تجار العملة يمتازون بذكاء خارق وليس كما يعتبرهم البعض بأنهم مجرد أغبياء محظوظين، مؤكداً بأنهم تكبدوا خسائر فادحة في الفترة السابقة لأنهم اشتروا عملة فوق سعر الأربعين جنيهاً، لكن الكثيرين منهم احتفظ بها حتى لو بعد حين لأنها (لا بِتْدوِّد ولا بِتعَفِّن).
خبير اقتصادي: ما قام به تجار العملة أمر إيجابي لهذه الأسباب
الخبير الاقتصادي د. عبد الله الرمادي يذهب بحديثه لـ(السوداني) إلى أن القرارات الرئاسية والإجراءات الأمنية الأخيرة حققت جزءً من مسعاها في ضبط سوق العملة الأجنبية، لافتاً إلى أن المعالجات يجب أن تحل بإجراءات اقتصادية عكس تلك الإجراءات الإدارية والأمنية التي هي غير قابلة للاستمرارية بل عبارة عن علاج مؤقت سرعان ما يزول وتنتهي صلاحيته بحل أزمة السيولة بالبنوك، ويعتلي الدولار مكانه مرة أخرى، وأشار الرمادي إلى أن تجفيف السيولة بالبنوك أدى إلى توليد الكساد وعندما يضاف الكساد إلى التضخم ينتج بما يعرف للاقتصاديين بـ(الكساد التضخمي) وهو أسوأ مراحل تدهور الاقتصاد، ونوه الرجل إلى أن تجفيف السيولة أدى إلى توقف حركة الصادر والوارد بميناء بورتسودان؛ حيث انعكس على قطاع النقل وطال عمال الشحن والتفريغ، كما أدى إلى إزالة قطاع المخلصين الجمركيين بالميناء وإيقاف الإيرادات للجمارك وكما هو معلوم فنسبة الاعتماد غير المباشر عليها من قِبل الدولة يصل إلى 80%، غير ذلك فشح السيولة أفرز ما يُسمى أزمة ثقة المودعين لتفضيلهم الاحتفاظ بمدخراتهم بخزنهم الخاصة بدلاً عن المصارف. وأشار إلى أن البدائل التي انتهجها تجار العملة بدلاً عن المضاربة بالدولار كتجارة المواشي، تنقيب الذهب، العقارات، والزراعة يصب في مصلحة المواطن وهو يعتبر توظيف الفوائض المالية وتسخيرها لمنفعة المواطن وتساعد على انتعاش الاقتصاد السوداني، وأن عملهم فيه ليس له سلبيات بل هو عمل إيجابي تحتاجه الدولة قبل المواطن. حيث لخص مشكلة ارتفاع الدولار نتيجة لأخطاء سياسية وتشوهات اقتصادية ينبغي على الدولة ترك مطاردة تجار العملة والالتفات للأسباب الحقيقية وهي ارتفاع نسب الإنفاق الحكومي المترهل الذي أحدث تضخماً جامحاً في الاقتصاد السوداني، والتضخم يعني تآكل القوة الشرائية للعملة الوطنية وينعكس ذلك على الدولار، واختتم حديثه بأن العلاج الناجع للأزمة هي تخفيض نسبة الانفاق الحكومي المترهل.
ما هي رؤية خبراء المصارف؟
ويقول الخبير المصرفي محمد عبد الرحمن أبو شورة لـ(السوداني) إنَّ عمل تجار العملة في مجالات جديدة مثل إنتاج الدهب، المواشي، والعقارات يسهم في زيادة الطاقة الإنتاجية للبلاد، وينعكس إيجاباً على الحركة الاقتصادية، مشيراً إلى أن العمل في مجال العقارات يرجع إلى تحجيم البنوك للتمويل العقاري للمواطنيين الأمر الذي أدى إلى ولوج الرأسماليين من أوسع أبواب سوق العقارات، وأصبحت لهم سيطرة كاملة على هذا السوق، بالتالي فدور البنوك هو مساعدة المواطنيين على اقتناء قطع سكنية، أو تمويل المواطن بمواد بناء، عندما تم تحجيمها سيطر التجار على هذا السوق.
ويرى أبو شورة أن تجفيف السيولة بالبنوك كان وراء انخفاض الدولار، منوهاً إلى وجود ما يعرف بـ(تخلف) في الوعي المصرفي؛ أي أن معظم النقود المتداولة بالبلاد يملكها مزارعون ورعاة لا علاقة لهم بالنظام المصرفي، يقومون بحفظ تلك الأموال في منازلهم بحيث يتم استغلالها في المضاربات بسوق العملة وأدت إلى ارتفاع الدولار.
وزير سابق: على الدولة تشجيع التجار وإغراءهم أكثر
من ناحيته قال رئيس القطاع الاقتصادي بالمؤتمر الوطني (السابق)، حسن أحمد طه إنهم لاحظوا مؤخراً دخول أموال هائلة في مجال قطاع العقارات ما يُرجِّح إقبال تجار العُملة على هذا النشاط، وأكَّد طه خلال حديثه لـ(السوداني) وجود خلل في قطاع العقارات ما يستوجب على الدولة ضبط النشاط وإدراجه في السجلات بحيث يتم إدراج كل عقار تحت اسم المشتري حتى يتسنَّى للدولة خصم ضريبة الدخل الشخصي السنوي لكل من يعمل في هذا النشاط، وقال: يوجد من لديهم مئات العقارات في حين لا تعلم الدولة عنهم شيئاً وهذا ما كان ينطبق تماماً على تجار السوق الموازي للعُملة، ووصف حسن طه قطاع الضرائب بالسودان بأنه أفشل قطاع ضريبي في إفريقياً بدليل أن نسبتها تنحصر بين (6 إلى 7%) مطالباً بتطوير وتفعيل نظام الضرائب ونظم المعلومات خاصة فيما يتعلق بملاك العقارات وتسجيل مكاتب العقارات لضبط المستثمرين وعدم هروبهم من الضرائب. ونصح طه الجهات المختصة بتشجيع تجار العُملة حال استثمارهم في مجال الذهب وذلك بتحفيزهم بسعر شراء مُغرٍ حتى لا يلجأوا إلى تهريبه خارج البلاد وبالتالي نكون قد حرثنا في البحر، واختتم حديثه بأن القرارات الرئاسية والإجراءات الأمنية الأخيرة حققت مسعاها في ضبط واستقرار سوق الدولار وهي جزء من معالجات سعر الصرف، وأكد أن بنك السودان بصدد (فك السيولة) بالبنوك حتى لا تتضرر القطاعات الإنتاجية بالبلاد.
تحقيق: اليسع أحمد
السوداني