(30) يوماً بالتمام أكملها الفريق أول صلاح عبد الله (قوش) متوهطاً على مقعد المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات الوطني، بعد تعيينه في 11 فبراير الماضي، في خطوة رئاسية مثلت مفاجأة من العيار الثقيل، وخلقت نوعاً من الإثارة السياسية والإعلامية، وأربك تعيينه الحسابات الداخلية والخارجية.
قليلون جداً كانوا يعرفون أن الفريق قوش ظل لفترة ليست بالقصيرة قريباً من الرئاسة، ويعلمون علم اليقين، أنه ظل يضطلع بمهام خاصة بعيداً عن الأضواء.
(30) يوماً ربما كانت بالنسبة للمنتسبين للوظائف العامة والخاصة لا تتجاوز فرحة استلام “الراتب” والتمتّع بالمخصصات أو استقبال هموم معيشية جديدة، لكنها في حالة الفريق أول مهندس ركن صلاح عبد الله قوش، كانت صاخبة ومليئة بالأحداث الجسيمة بعد أن اتخذ الرجل من مقر عمله إقامة شبه دائمة.
(1)
إطلاق سراح معتقلين سياسيين.. أول القرارات
بعد أسبوع واحد من تولّي الفريق قوش منصب المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات، أفرجت السلطات الأمنية عن نحو (80) سجيناً سياسياً جرى اعتقالهم عقب مشاركتهم في تظاهرة دعا لها الحزب الشيوعي وحزب الأمة احتجاجاً على غلاء الأسعار، وتم الإفراج بقرار سيادي من رئيس الجمهورية المشير عمر البشير، وبعثت الرئاسة بمساعد الرئيس اللواء عبد الرحمن الصادق المهدي إلى سجن كوبر للإشراف على خروج المعتقلين السياسيين، ورغم دعوة جهاز الأمن لوسائل الإعلام لتغطية خروج المعتقلين من سجن كوبر وعلى الرغم من بقاء عدد من الكوادر السياسية وقيادات الأحزاب؛ إلا أن ثمة رسالة ربما أرادت الدولة وضعها في بريد المعارضة، بأنها تعمل على استعادة أجواء الحوار الوطني؛ بيد أن الملفت للانتباه أيضاً الحديث المنسوب لمدير الأمن في صحيفة (الانتباهة) بأن إطلاق سراح قيادات الحزب الشيوعي رهين بتغيير سلوك الحزب، وهو ما يؤشر إلى منطلق واحد للقيادات الأمنية، للتعامل مع الحزب الشيوعي الذي سبق للمدير السابق لجهاز الأمن الفريق أول محمد عطا أن وجه إليه انتقادات شديدة حول موقفه الرافض للانخراط في العملية السياسية سواء عبر الانتخابات أو الحوار الوطني، قبل أن يتساءل عطا: ماذا يريد الحزب الشيوعي؟!
(2)
ترتيب بيت (الأمن) من الداخل
فور تسلمه مهامه شرع الفريق قوش في إجراء ترتيبات داخلية خاصة بالمؤسسة الأمنية، تزامنت مع قرار رئيس الجمهورية بإعفاء نائب المدير العام الفريق أسامة مختار وتعيين الفريق جلال الدين الشيخ خلفاً له، بجانب إعفاء اللواء عبد الغفار الشريف واللواء الهادي مصطفى، بالإضافة إلى توجيه ضربة خفيفة لتجار السوق والمضاربين ممن يعبثون بالسوق فعيّن مديراً جديداً للأمن الاقتصادي وهو الفريق سليمان محمد أحمد.
قوش لم يتردد كعادته في إجراء ما يراه ضرورياً من تغييرات شملت أسماء كبيرة، ورغم ارتباط بعض هذه التغييرات بقضايا وأزمات مفتعلة بسبب سوء التقدير، إلا أنها – أي التغييرات – طبقاً للمراقبين، كانت أبعد ما يكون عن تصفية الحسابات الشخصية، وتصب في معالجة الأزمة الداخلية وعلى رأسها الاقتصاد، وتدهور الأوضاع المعيشية وتصاعد سعر الصرف بشكل جنوني. ويبدو أن رأي قوش الإيجابي في المؤسسة الأمنية إبان عهد خلفه الفريق أول مهندس ركن محمد عطا، لم يقف حائلاً دون المضي في طريق التغييرات التي أحدثها بطريقة وصفها كثيرون بـ(السهل الممتنع).
(3)
مطاردة القطط السمان.. المهمة الأصعب
أجندة الرجل منذ جلوسه على مقعد المؤسسة الأمنية، كانت خافية بيد أن نظراته الحادة التي استقبل بها ضيوفه في أول ظهور رسمي له بأكاديمية الأمن العليا، كانت تشي بالكثير، قبل أن يقطع الطريق على حيرة الكثيرين، وصانعي (الشمار)، بتوجيهه رسائل داخلية وخارجية محددة، عدها البعض برنامج عمل للرجل.
ولعل أبرز تلك الرسائل كانت في قوله إن جهاز الأمن سيتصدَّى بقوة وحزم لمُخرّبي الاقتصاد الوطني والمُضاربين في العملات الأجنبية وقوت الشعب. ويبدو أن تمرّس قوش وخبرته التي اكتسبها من الأعمال الحرة لعدة سنوات عقب تغييبه من المسرح السياسي، كرّست له معرفة دقيقة بخبايا السوق ومافيا الاقتصاد وبؤر الاختراق وثغرات أجهزة الدولة؛ فما إن انقضت أيام على تلك الرسالة، حتى رشح في مجالس رجال المال والأعمال بأن ثمة تحقيقات تُجرى على نطاق واسع، وحملات مكثفة للقبض على المضاربين بالدولار والسكر، والهاربين بحصائل الصادر، وهو ما أكده أحد من ورّدوا شيكات لحصائل كانت متأخرة بطرفهم. ويذهب الرجل في حديثه لـ(السوداني) أمس، إلى أن قوش هاتف مديره وطالبه بإعادة قيمة حصائل صادر تأخر توريدها لبنك السودان، وإلا فإنه سيقوم بإحضاره عبر الإنتربول، ولم يكد الرجل يهبط مطار الخرطوم حتى فوجئ بالأجهزة المعنية تتلقفه ليبقى قيد الاحتجاز حتى ورَّدَ الشيكات المستحقة للبنك المركزي.
كما نقلت المجالس عن أسماء كبيرة وأرجل طويلة، جرَّهم للجان التحقيقات، ولم يُخْفِ أُنْسُ المجالس حالة القلق التي ظلت تنتاب المؤسسات الاقتصادية والمصرفية جرّاء الحملات المكثفة للسلطات الأمنية، والمراجعة الشاملة لتلك المؤسسات الاقتصادية، وما ستسفر عنه نتائج تلك التحقيقات من مسارات نيابية وقضائية.
وبغض النظر عن مدى مصداقية تلك الأحاديث أو مبالغتها أو عدمها، إلا أن الواضح للعيان هو تفعيل الذراع الأمنية في اللجنة الرئاسية لضبط سعر الصرف، باعتبارها الحلقة المفقودة في سيناريو الإجراءات التي تبنتها الدولة، وتجلى التفعيل في مراقبة حركة الاقتصاد، الأمر الذي أسهم كثيراً في هبوط واستقرار سعر الدولار، أو تحرياً للدقة ثباته بعد حالة الجنون التي اكتنفته، ومحاصرة تهريب الذهب والسلع عبر المنافذ الرسمية والحدودية.
زيارة أنجمينا ودعوة نظيره المصري.. الانفتاح نحو الخارج
قوش الجالس حديثاً على قمة الهرم الأمني في البلاد، بدا زاهداً في مغادرة الخرطوم أو ربما كانت الحالة والوضع مبررات كافية لبقائه في سبيل متابعة مؤشرات نجاح الذراع الأمنية في ضبط إيقاع السوق جنباً إلى جنب مع الخطوات الاقتصادية للدولة؛ فلم يسجل خلال الشهر الذي قضاه سوى زيارة خارجية واحدة، أحدثت وجهتها الدهشة في قلوب وعقول الكثيرين.
أنجمينا كانت أولى محطات الفريق قوش الخارجية، ملتقياً بالرئيس إدريس ديبي، وربما بحكم أن الظرف الرئيسي في الزيارة ذو طبيعة أمنية، فإن أجندتها كانت قليلة المعلومات كثيفة التحليلات، وربطها محللون بأكثر من عنوان ورسالة، بيد أنها تكشف عن شواغل الدولة باستقرار دارفور وإكمال عملية السلام في الإقليم ومساعي الحكومة للحفاظ على الاستقرار الأمني والاجتماعي في دارفور، ورشح بأن هذه الزيارة لا تخلو من تطمينات لحكومة الرئيس ديبي، بحرص الخرطوم على الاحتفاظ بالعلاقة المتطورة بينها وأنجمينا، وتجمع بينهما قوات مشتركة لأمن الحدود بجانب التحالف العربي والإسلامي بقيادة المملكة العربية السعودية.
هدف آخر للزيارة حدده المراقبون في تعقيدات القضايا الإقليمية وانعدام الأمن في ليبيا، ونشاط الجماعات الإرهابية وتجارة المخدرات والهجرة غير الشرعية، وهو الأمر الذي يتسق مع ترؤس مدير جهاز الأمن السوداني للجنة مديري الأمن والمخابرات في إفريقيا المعروفة اختصاراً بـ”السيسا” هذه الدورة، التي حدَّدَتْ أهدافها في آخر اجتماع لها بالخرطوم نهاية العام الماضي، ولخَّصته في قضايا “مكافحة الإرهاب والهجرة غير الشرعية وتحقيق الاستقرار السياسي في إفريقيا”.
عندما حطَّتْ طائرة الفريق قوش في أنجمينا في أول زيارة خارجية له، اعتبر بعض المراقبين أن قوش يزور أنجمينا بينما عينه على (القاهرة) باعتبار أن الرجل يدرك منابع (الأذى) بمثل إدراكه أهمية الاحتفاظ بعلاقات متطورة مع دول الجوار التي يبدو أنها (تهجست) من إعادة تعيين قوش، في وقت كان فيه الأمر يرضي البعض فيما يقبله آخرون على مضض.
وربما كان مرد ذلك تجارب عدة بينهم وقوش، خاصة في جهود مكافحة الإرهاب وتبادل المعلومات، وإقرار مبدأ حسن الجوار والتخلص المتبادل من الجماعات المناوئة للحكومات، بجانب علاقات شخصية قوية تربط قوش بقادة إثيوبيا والرئيس الأريتري أسياس أفورقي ورئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميادريت وكل فرقاء الجنوب وليبيا.
وقد مثلت زيارة مدير جهاز المخابرات المصرية بالوكالة، للخرطوم اللواء عباس مصطفى كامل، بدعوة من قوش؛ مثلت إنعاشاً لمسار التعاون الأمني والاستخباري الذي ظل السمة البارزة بين السودان ومصر خلال الفترة الأولى التي تولَّى فيها قوش جهاز الأمن. وكان قوش قد نسج علاقة شخصية مع مدير المخابرات الراحل عمر سليمان يرى خبراء في شؤون الأمن القومي، أنها أسهمت في إعادة العلاقات بين البلدين لمسار التعاون والاستقرار بعد قطيعة وتبادل عدائي استمر سنوات. وتكشف زيارة مدير المخابرات المصرية عن اتجاه قوى لوضع العلاقة بين البلدين في مسارها الطبيعي، فالتوتر الذي شهدته العلاقة في عهد الرئيس السيسي يدل على أن هناك صراعاً استخبارياً وتباعداً في وجهات النظر السياسية بين البلدين وعلى رأس تلك القضايا (حلايب، الأزمة الليبية، سد النهضة).
وقد كان لافتاً الرسالة التطمينية التي أرسلها قوش لبعض الجهات الإقليمية وغير الإقليمية في أول ظهور رسمي له عقب إعادة تعيينه، إذ قال في كلمة له بأكاديمية الأمن العليا إن “جهاز الأمن لن يسمح لكائن من كان ومهما كانت ثقافته أو أيدولوجيته أن يهدد أمن واستقرار دول الجوار”، ولا شك أنها رسالة تبعتها إجراءات دفعت الجانب المصري للإقبال على تصفير المشكلات بشهية مفتوحة.
هل يقودها (ثورة مخملية)؟
هناك غيابٌ ملحوظٌ حالياً لجهود ومقولات وخطابات سابقة لقوش في سياق العمل السياسي، ولم يجدد الرجل في دعواته الإصلاحية التي بدأت مع بداية ثورة الربيع العربي في عام 2011م ومطالبته في خطاب له بمقر الحزب الحاكم “بضرورة التصدي للفساد والمحسوبية”، ومطالبته بالإصلاح التي توافقت مع رغبة رئيس الجمهورية؛ مما جعل البعض يصف عودته لواجهة الأحداث السياسية والأمنية بأنها بداية “ثورة مخملية”؛ حتى أن البعض رأى في حديثه عن ضرورة التفكير “خارج الصندوق” امتداداً لرغبة جامحة ظلت تنتاب الرجل منذ حقبة ما بعد انفصال الجنوب، بضرورة إحداث تغيير جوهري في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية. تغيير بمنظور قوش لن يتأتّى إلا وفق برنامج “السودان للسودانيين”، دون أيدولوجيا معقّدة أو ذاتية تنظيمية مدمّرة. ويعتقد البعض أن الرجل ظل منشغلاً بهذه القضية في فترة تسلمه منصب مستشار رئيس الجمهورية لشؤون الأمن القومي، حيث شرعت المستشارية في إدارة حوار “استراتيجي” تركز حول “المنظور الاستراتيجي للعلاقات الخارجية والإعلام والاقتصاد والمياه”. واستطاع قوش إقناع قادة الأحزاب السياسية بالمشاركة في ذلك الحوار، ويُروى أن زعيم الحزب الشيوعي الراحل محمد إبراهيم نقد عندما التقى وفد المستشارية بقيادة قوش دهش للفكرة وتنبأ بعدم اكتمال الحوار الاستراتيجي، وترجم مخاوفه بالقول: “الكلام ده سابقة غير معهودة في تاريخ السودان، على أي حال أنا معك وناسك ما بخلوهو يكتمل، ولكن ضروري جداً أن تضع منه نسخة في دار الوثائق القومية”.
الخرطوم: عبد الباسط إدريس
السوداني