“إن كياني كله لمصر، إنها كل شيء بالنسبة لي”، سطر كتبه جان-فرانسوا شامبليون في مضمون رسالة كتبها أثناء زيارته لمصر عام 1828 إلى شقيقه في باريس، لخص به عشقا خاصا لمصر ربط اسمه بها حيا في متلازمة تمخضت عن تأسيس علم دراسة تاريخ مصر القديم، وميتا عندما ربط البعض سبب وفاته بزيارته لمصر وشربه من ماء النيل.
استعصى سبر أغوار تاريخ مصر القديم على الجميع قرونا، منذ أن نُقش آخر نص باللغة المصرية القديمة “الهيروغليفية” في جزيرة فيلة، جنوبي مصر، عام 394 ميلاديا، وماتت لغة المصريين “المقدسة” بموت آخر كهنتها، حتى استجاب “حجر رشيد” عام 1822 لجهود الفرنسى شامبليون، لتُبعث الحياة من جديد في تاريخ مصر القديم.
وُلِد شامبليون فى 23 ديسمبر/كانون الأول عام 1790 فى مقاطعة فيجاك الفرنسية، لأب امتهن بيع الكتب، إذ خصص له عمدة المدينة مكانا لمزاولة مهنته.
لم يتمكّن شامبليون، الملقّب بـ”الصغير” للتفرقة بينه وبين شقيقه الأكبر جاك-جوزيف شامبليون، من الالتحاق بالتعليم الرسمي نظرا لاضطراب الأحوال في أعقاب الثورة الفرنسية، فتلقى دروسا خاصة فى اللغتين اللاتينية واليونانية، ثم انتقل إلى مدينة جرونوبل للالتحاق بمدرسة ثانوية، وكان شقيقه يعمل باحثا فى معهد البحوث الفرنسى، وبدأ شامبليون فى سن 13 عاما الاهتمام بدراسة اللغات العربية والكلدانية والسريانية والعبرية.
اقرأ أيضا إسبانيا تفك الشفرة السرية لرسائل عمرها 500 عام كتبها الملك فرديناند
تواصل شامبليون مع العالم جوزيف فورييه، الذى شغل منصب سكرتير البعثة العلمية خلال حملة نابليون بونابرت على مصر (1798-1801)، ودفعه إلى دراسة التاريخ، بعد أن أثارت مجموعته الخاصة وبحوثه العلمية فضول وإعجاب شامبليون، فوقع فى غرام مصر وتاريخها.
“المسألة الآن في حوزتي”
بدأ العد التنازلي نحو مجد شامبليون عندما عثر ضابط يدعى بيير فرانسوا بوشار، خلال حملة بونابرت على مصر، على حجر أثناء إجراء تحصينات عسكرية في مدينة رشيد فى 19 يوليو/تموز عام 1799، وهو نقش لمرسوم ملكى يعود إلى عام 196 ميلاديا صدر فى مدينة “منف” تخليدا للحاكم بطليموس الخامس، كتبه كهنة بثلاث كتابات ليقرأه العامة والخاصة من المصريين والطبقة الحاكمة اليونانية، فجاء النص مدونا بالكتابات: الهيروغليفية (وهي اللغة الرسمية فى مصر القديمة)، والديموطيقية (وهي الكتابة الشعبية فى مصر القديمة)، واليونانية القديمة (وهي لغة الطبقة الحاكمة).
استفاد شامبليون من معرفته باللغة اليونانية في مقارنة النصوص الثلاثة، واستطاع بعد عناء أن يصل إلى قراءة بنائية، على الصعيدين اللغوي والصوتي، للنص وترجمته، ملتقطا طرف الخيط من دراسة اللغة القبطية، التي اعتبرها الأكثر قربا للغة المصرية القديمة. وكان قد صادف كنيسة “سان روش” في إحدى ضواحى باريس، واستمع بها لأول مرة فى حياته إلى قداس باللغة القبطية.
عثر ضابط يدعى بوشار خلال حملة بونابرت على مصر على حجر في مدينة رشيد عام 1799 أثناء إجراء تحصينات عسكرية
وفى 14 سبتمبر/أيلول 1822 أمسك شامبليون بورقه، وخرج من بيته فى شارع مازارين فى باريس مسرعا إلى محل عمل شقيقه في أكاديمية النقوش والآداب، قائلا عبارته الشهيرة :”المسألة الآن فى حوزتي، وضعت يدي على الموضوع” وسقط مغشيا عليه.
اقرأ أيضا مصر توافق على “اقتراض حجر رشيد” حلا للمشكلة
كتب شامبليون نتائج بحثه فى خطاب شهير يُعرف باسم “خطاب إلى السيد داسييه”، أمين أكاديمية العلوم والفنون، فى 27 سبتمبر/أيلول عام 1822، لم يكشف شامبليون في محتواه سوى عن جزء صغير من اكتشافه، نظرا لأنه كان فى حاجة إلى إجراء مراجعة لبعض النتائج.
“رحلة طال انتظارها”
كلل شامبليون نجاحه بعد أن نشر ترجمة كاملة لنص حجر رشيد في عام 1828، وهو نفس العام الذي تشكلت فيه بعثة فرنسية-توسكانية ضمت 12 عضوا، على رأسهم شامبليون، هدفها زيارة مصر ودراسة آثارها عن قرب، والتأكد من نجاح مشروع شامبليون في قراءة النصوص المصرية القديمة وجها لوجه.
وطأت البعثة أرض مدينة الإسكندرية فى 18 أغسطس/آب عام 1828، وبعد وصول شامبليون إلى مصر، كتب رسالة إلى شقيقه الأكبر يقول فيها: “إننى أتحمل درجة حرارة الجو قدر استطاعتي، يبدو أننى قد ولدت فى هذا البلد، فالأجانب يرون ملامح وجهي أشبه بملامح رجل قبطي (مصري)”.
ويقول شامبليون في رسالة مؤرخة بتاريخ 22 أغسطس/آب 1828، وردت ضمن “الرسائل واليوميات خلال رحلة مصر” التي جمعتها المؤرخة هرمين هارتلبن: “لقد وطأت أرض مصر التي طالما تاقت نفسي إليها في 18 أغسطس، واستقبلتني كأم حنون. سأحتفظ على الأرجح بصحة جيدة، كما رويت ظمأي من ماء النيل الرطب الذي يأتي عبر ترعة المحمودية التي أمر الباشا (محمد علي) بشقها”.
دامت رحلة شامبليون فى مصر 18 شهرا اكتشف خلالها خمسين موقعا أثريا، وكتب تفاصيل ونتائج رحلته فى ستة مجلدات كبيرة بعنوان “آثار مصر و النوبة”، سجل فيها مشاهداته اليومية عن زيارته للآثار المصرية القديمة، وتعليقاته التفصيلية، والنصوص التاريخية خطوة بخطوة خلال إعادة اكتشاف مصر القديمة، وكتب رسالة أخرى لشقيقه يقول فيها: “لقد جمعت أعمالا تكفينى العمر كله”.
وفي رسالته الأخيرة مودعا أرض مصر إلى الأبد من مدينة الإسكندرية بتاريخ 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1829 قال: “أخيرا سمح لي آمون العظيم بتوديع أرضه المقدسة، سأغادر مصر في الثاني أو الثالث من ديسمبر بعد أن غمرني أهلها القدامى والمعاصرون بكل جميل ومعروف. .. نحن جميعا في صحة جيدة، وأشعر بمزيد من القوة لمجابهة الزوابع والعواصف التي ستعترضنا في أعالي البحار خلال هذا الشهر من الملاحة.. . نحن مستعدون لتحمل ما هو أعتى من الأمواج الهائجة في سبيل رؤية فرنسا من جديد”.
اقرأ أيضا سعي لاسترداد اثار مصر بالخارج
وعاد شامبليون إلى باريس، وحصل على عضوية أكاديمية النقوش و الآداب فى مايو/ أيار سنة 1830، وعُين في منصب أستاذ فى “الكوليج دى فرانس” سنة 1831، و لم يـُلق سوى محاضرات معدودة فى الكرسى الذي أنشئ خصيصا له في دراسات تاريخ مصر القديم، إذ سرعان ما اضطرته ظروف مرضه وتدهور حالته الصحية إلى التوقف عن إلقاء محاضراته إلى الأبد.
“أسباب الوفاة”
كثر الجدل بشأن أسباب وفاة شامبليون، ويقول المؤرخ الفرنسي جان لاكوتور في كتابه “شامبليون حياة من نور” إن مرض “السُل الرئوي كان أهم الأسباب جميعا، فضلا عن هشاشة رئته المعروفة منذ فترة طويلة”.
ويضيف لاكوتور: “إن محنة المناخ القاسي للغاية التي فرضت عليه في بداية عام 1830 لدى عودته من مصر (بعد مروره من جو الإسكندرية الخانق وتعرضه لثلج محجر تولون الصحي في فرنسا في شتاء لا يمكن تصور قسوته في ذلك العام، والأكثر برودة لنصف قرن كامل) حول الوهن الصحي إلى مرض قاتل”.
رفض المتخصصون المعاصرون لشامبليون اعتبار حالات الإغماء التي كانت تطرحه أرضا من حين لآخر، مثلما حدث في يوم 14 سبتمبر/أيلول 1822، تشخيصا إكلينيكيا لإصابته بمرض السُل، فقد كان مريضا بمرض السكري، فضلا عن أزمات مرض النقرس التي عصفت بالسبع سنوات الأخيرة من حياته، حسبما أشارت التقارير الطبية وقتها.
كما توجد أسباب عديدة دعت إلى الاعتقاد بأن فترة إقامته في مصر، وظروفها المناخية، وشربه من ماء النيل، وما تناوله من طعام لم تكن غريبة عن التدهور المفاجئ لصحته، وفقا للاكوتور.
وقدم الأطباء الفرنسيون، كروفيليه ودبروسيه وروبير، تشخيصا ووصفا لحالة شامبليون الصحية كما ورد في كتاب لاكوتور: “مرض معقد للغاية، حالة وهن بسبب مرض السكري، البقاء في الحجر الصحي، الانفعالات مع أحداث الثورة، الإرهاق المستمر والإحساس الدائم بأن الموت يقترب منه، تعد جميعها أسبابا معنوية لها آثار كبيرة على مريض السكري، فضلا عن التئام الجروح السيء الذي يساعد في انتشار مرض السُل الرئوي”.
وأضافوا :”تفاقُم مرض النقرس، والمحن التي واجهت شامبليون ورحلته المرهقة (إلى مصر) والأجواء السيئة داخل مقابر ملوك (الفراعنة) وشرب كميات كبيرة من ماء النيل، كل ذلك تسبب في إصابته بمرض الكبد الذي جرى تشخصيه متأخرا جدا، وأوصله إلى القبر”.
ظل هذا الاعتقاد شائعا منذ وفاة شامبليون حتى طرح هوتان أشرفيان، الطبيب المتخصص في جامعة كوليدج لندن الملكية، فرضية جديدة نشرتها دورية “الفسيولوجيا العصبية السريرية” تشير إلى أن وفاة شامبليون كانت بسبب إصابته بأعراض مرض عصبي ناجم عن خلل في الخلايا العصبية الحركية، وخلايا الدماغ والحبل الشوكي.
ويقول أشرفيان، بحسب موقع “سيانس إيتافينير” الفرنسي المعني بشؤون العلوم والصحة: “موت شامبليون مبكرا يعزى إلى إصابته بالتعب والإرهاق الشديدين بعد زيارة مصر، ما يرجح أن سبب الوفاة ناجم عن إصابته بمرض التصلب الضموري الجانبي”.
ويستند أشرفيان إلى أنه خلال فترة إقامة شامبليون في مصر، لا توجد أي إشارة في المراسلات بشأن إصابته بمرض ليمفاوي أو عدوى من أي نوع، لكنه شكا بعد عودته إلى فرنسا من وهن العضلات، ثم شلل الأطراف وصعوبة في التنفس، لازمته حتى الوفاة.
أوصى شامبليون بدفنه فى مقابر بيير لاشيز في باريس و أقيمت بجوار قبره مسلة على الطراز الفرعوني
توفي شامبليون فى الرابع من مارس/آذار 1832 عن عمر ناهز 42 عاما، ولم يكن قد تمكن من الانتهاء من كتابه عن “قواعد اللغة المصرية القديمة” ولا معجمه الذى كان يعده، لكن شقيقه الأكبر جاك جوزيف أتمهما ونشرهما بعد وفاته.
وجرت مراسم الجنازة في السادس من مارس/آذار في كنيسة سان روش، التي كان لها مبلغ الأثر في حياته، والتي تعلم فيها اللغة القبطية. وكان شامبليون قد أوصى بدفنه فى مقابر بيير لاشيز في باريس، و أقيمت بجوار قبره مسلة على الطراز الفرعوني من الحجر الرملى.
استطاع شامبليون خلال حياته القصيرة أن يخلد اسمه بإنجازه العلمي ضمن قائمة أهم علماء عصره، بعد أن كشف أسرار وخبايا الحضارة المصرية القديمة، ويقول لاكوتور: “لا تكمن عظمة شامبليون في كونه نصّب نفسه صانعا للمعجزات، بل في معرفته كيف يجمع ومضات النور في عتمة الليل، يلملم شملها لتصير كشفا، جامعا في شخصه المكتشف الرائد والوارث لأعمال أسلافه، مؤسسا مشروعه على الدراسة والبحث وعلى مقدار يساويهما من الحدس”.