مستغلا هدنة ملتبسة وقرار دوليا غير واضح، يستمر جيش النظام السوري في قضم الغوطة الشرقية تدريجيا، في وقت خفتت فيه حدة المواقف الدولية، فيما يشبه التسليم بسيطرة النظام على أحد أهم معاقل المعارضة المسلحة.
وفي رد على مواقف دولية تصفها المعارضة بالمتراخية مقارنة بالوضع الإنساني الصادم، أكد الرئيس السوري بشار الأسد أن الحملة العسكرية في الغوطة الشرقية ستستمر باعتبارها جزءا من مكافحة الإرهاب، على حد تعبيره.
وأثار هذا التصريح ردود فعل منددة، بعد أن أوقع القصف المدفعي والغارات الجوية خلال الأسبوعين الماضيين أكثر من 650 قتيلا مدنيا في هذه المنطقة المحاصرة منذ 2013، وفق المرصد السوري لحقوق الإنسان.
وكان مجلس الأمن الدولي قد تبنى يوم 24 فبراير/شباط الماضي قرارا بالإجماع يدعو إلى وقف لإطلاق النار لمدة ثلاثين يوما في الغوطة الشرقية، والسماح بإدخال مساعدات إنسانية، ولكن الحملة العسكرية استمرت فأعلنت روسيا هدنة إنسانية يومية لمدة خمس ساعات أملا بخروج المدنيين، في حين تم تسجيل حالات خروج نادرة.
روسيا والحسم
ويأتي تصريح الأسد باستمرار الحملة العسكرية رغم المآسي الإنسانية التي تسبب فيها القصف والصور الصادمة التي تناقلتها وسائل الإعلام والتي وصفها المفوض السامي لحقوق الإنسان رعد بن زيد بأنها ترقى إلى درجة “الجرائم الإنسانية” وأنها تحد كبير للمجتمع الدولي، لكنه لا يخلو من عوامل قوة أهمها الدعم الروسي.
وتشير التقديرات إلى أن جيش النظام تمكّن من السيطرة على ربع الغوطة الشرقية المحاصرة خلال الأيام الماضية، واستعاد بلدات أوتايا والنشابية وحزرما وتل فرزات، ومناطق في بلدة الشيفونية، ويسعى حثيثا إلى شطر الغوطة الشرقية إلى قسمين شمالي وجنوبي لمحاصرة المعارضة.
وكانت فصائل من المعارضة المسلحة تسيطر على نحو من مئة كيلومتر مربع من الغوطة الشرقية، بعدما تمكن جيش النظام من قضم مساحات واسعة منها خلال العامين الماضيين، ثم مواقع أخرى منذ عمليته الأخيرة التي بدأت يوم 18 فبراير/شباط الماضي.
ويرى محللون أن وتيرة المعارك الحالية والجبهات العديدة التي فتحها النظام والقوة النارية الهائلة التي يستعملها والحشود العسكرية الضخمة، مع غياب خطوط إمداد للمعارضة المسلحة، يسرّع من حسم المعركة لصالح قوات النظام.
وتعمل موسكو من أجل الحسم السريع لمعركة الغوطة تجنبا لسيناريوهات أميركية وغربية، بينها إمكانية التدخل العسكري لضرب قوات النظام، وهو ما قد يقلب المعادلات، سواء في الغوطة خاصة أو في الحرب السورية عامة، ويشكل إحراجا كبيرا لموسكو بعدم ردها العسكري، كما حصل عند ضرب واشنطن مطارات الشعيرات.
ويشير محللون إلى أن تصريحات بوتين “الحازمة” بالرد على أي اعتداء غربي على موسكو أو حلفائها أثناء استعراضه أسلحة روسية جديدة “لا مثيل لها”، تمثل رسالة تتعلق أساسا بمجريات معركة الغوطة الجارية حاليا، وهي تؤكد إصرار موسكو على حسمها كشكل من أشكال الرد على عدم الاعتراف الغربي بالدور الروسي “الإيجابي” هناك.
وتشي بعض الإشارات في الخطاب -وفق محللين- بإصرار روسي على عدم السماح بهدر “مكتسباتها في سوريا”، والتصدي لمن يسعى إلى ذلك، ولذلك لم تعد موسكو تخشى ردود الفعل الدولية والاتهامات بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان في الغوطة، وهي تمضي قدما في تنفيذ أجندتها.
معركة مفصلية
وتدرك موسكو أن الحسم السريع لمعركة الغوطة يسقط ورقة مهمة من يد المعارضة السورية والولايات المتحدة، وتمنحها والنظام وضعا مريحا عسكريا وميدانيا، وتمدها بورقة مهمة في أي عملية تفاوض مقبلة.
ورغم أن المعارضة المسلحة ستفقد جيبا عسكريا مهما قرب العاصمة له وزن عسكري مهم وثقل سياسي كبير، وفق محللين، فإن النظام سيؤمّن الخاصرة الشرقية لعاصمته، وربما يوجه لاحقا القوات الكبيرة المحتشدة لحماية العاصمة نحو جبهات أخرى، وهو ما قد يكون له أثر كبير في الحرب بشكل عام.
وهذا السيناريو الذي يناسب تماما أجندة النظام وروسيا، يشكل عامل قلق كبير للمعارضة والولايات المتحدة والقوى الغربية، باعتبار معركة الغوطة أيضا أحد ميادين الصراع الدولي، ولذلك يتوقع محللون أن تزيد حدة الضغوط على روسيا والنظام على الأقل لتأخير الحسم العسكري.
وفي الوقت نفسه، تعمل المعارضة المسلحة على ترتيب أوضاعها العسكرية للحفاظ على مواقعها في الغوطة والضغط على النظام عبر استهداف العاصمة ومحاولة تحقيق اختراق عسكري كبير ومفاجئ داخل دمشق يربك النظام ويعيد خلط الأوراق مجددا.
ويشير مراقبون إلى التدخل الأميركي لإيقاف “مجزرة الغوطة” عبر ضربات جوية أو شن هجوم على جيش النظام، يبقى أمرا واردا رغم المحاذير العديدة، ومن بينها إمكانية التصدي الروسي بعد الرسائل العديدة مؤخرا في هذا الاتجاه، وهو ما يحمل الموقف العسكري إلى وضع فوق احتمال الطرفين ويهدد بحرب دولية كبرى.
ويراهن الكثير من المتابعين على صمود المعارضة المسلحة في المواقع التي لا تزال تسيطر عليها رغم التكاليف الإنسانية الهائلة لاستنزاف قوات النظام، ومن ثم استثمار الضغوط الدولية على روسيا والنظام للوصول إلى تفعيل القرار 2401 أو استصدار قرارات أخرى قابلة للتنفيذ.
الجزيرة نت.