في المقينص دار الأحامدة

صباح الخميس فارقنا الخرطوم وضجيجها، في ضحى مُغبر .. سافية التراب وأجيجها، عبرنا ولاية النيل الأبيض من شمالها لجنوبها، والريح قد هبَّ هبوبها، تزاحمت الخواطر ونحن نعبر كوستي وربك ومدن الولاية بصخبهن،

والقرى المتناثرة غرب النيل الأبيض في اتجاه الجنوب يرددن سجعهن، كنّا في طريقنا في رحلة خاصة اجتماعية الى منطقة المقينص أقصى حدود السودان مع جنوب السودان، حيث يشمخ جبل المقينص الذي تشرئب في قمته النقطة الحدودية الفاصلة بين السودان ودولة جنوب السودان، تكاد ترى في الطريق الترابي من كوستي الى المقينص، الثراء العريض لقبائل الأحامدة وسليم والجمع والشخناب وقبائل أخرى تقاسمت من زمن بعيد مناطق جنوب كوستي حتى حدود قبائل الشلك بجنوب السودان جنوباً، وأهالي جنوب كردفان في الجنوب الغربي والكواهلة غرباً في الجزء الشرقي من جنوب كردفان وشمالها، ويحدها من تجاه الشرق النيل الأبيض باتساعه وتمددّه الهادئ في أباطح ديار الصبحة وسليم ..
> منذ أن قسم المستر مارشال أستاذ الإدارة في جامعة بيرمنغهام البريطانية هذه المناطق في العهد الاستعماري الى عموديات ونظارات ومحاكم أهلية، وترسمت الحدود أو تم التعارف عليها في جبل المقينص مع أعالي النيل في جنوب السودان، لم تشهد هذه المناطق إلا توسعاً في الزرعة وتربية الحيوان، وصارت من أغني مناطق النيل الأبيض وربما السودان كله .. وزاد على ذلك اكتشاف البترول في مناطق (الرواد) وحقوله الواعدة والاستثمارات المتدفقة على جنوب النيل الأبيض المتوقع أن تتحول الى منطقة جذب كبرى تستقطب التنمية والخدمات ورؤوس الأموال الباحثة عن إنتاج المحاصيل الزراعية من ذرة وسمسم وزهرة الشمس وصمغ عربي، وإنتاج الضأن والماعز والأبقار وتصديرها ..
> يجري تشييد طريق بري بطول (168) كيلو متراً من كوستي الى المقينص مروراً بالرواد، وتعمل شركة الرواد للبترول في هذا الحقل الذي ينتج حتى اليوم 12 ألف برميل يومياً وبه أكثر الآبار في السودان إنتاجاً (رواد سنترال تن) وصل إنتاجها (2850).
> تقع المقينص بمحلية السلام بولاية النيل الأبيض، وهي آخر نقطةً حدودية سودانية في هذه الجهات مع دولة جنوب السودان.
> بتنا ليلة أمس على بعد مائتي متر تقريباً من الخط الحدودي، يوجد عدد من المعابر مع دولة الجنوب لكن المقترحة معبرين رسميين فقط، تعاني المنطقة من انتهاكات مستمرة للحدود من جانب قوات دولة الجنوب أو المعارضة الجنوبية المسلحة كما يوجد عدد كبير من اللاجئين الجنوبيين وصل عددهم الى (150 ألف) لاجئ بينما عدد سكان المحلية كلها ( 145 ألف ) مواطن سوداني وهذا يحمل في طياته مخاطر كبير خاصة أن هناك تنازع حدودي بين الدولتين، وتعتبر منطقة المقينص السودانية إحدى النقاط التي أثير حولها خلاف بين الدولتين في مسألة ترسيم الحدود، وربما تكون معرضة للصعود الى الواجهة في حال تم طرح موضوع ترسيم الحدود من جديد.
> يمارس سكان المنطقة الزراعة وتربية الحيوان، فهي من أغنى المناطق إنتاجاً للمحاصيل الزراعية ومن أكبر المواهب الطبيعية أو مراعي مخلفات الزراعة وحجم الثروة الحيوانية يصل الى ستة عشر مليون رأس من الضأن والأبقار والماعز والإبل، وتدخل هذه الثروة الحيوانية الضخمة كما هو معروف من أقدم العهود والحقب المراعي جنوباً داخل حدود دولة الجنوب وهي من المشاكل الراهنة في المنطقة ..
> تعاني منطقة المقينص من هموم وقضايا أساسية تتعلق بالخدمات ونقصها والتنمية وانعدامها، فهناك مشكلة عطش حادة في مدينة المقينص وصل فيها سعر برميل الماء ثلاثين جنيهاً وتجلب المياه من سد يبعد عن المدينة ثمانية كيلومترات، وتعج المدينة بحركة تجارة واسعة وسوق نشطة، بينما خدمات التعليم والصحة والكهرباء وغيرها لا تزال شحيحة ومنقوصة، تسند المدينة ظهرها الى الجبل الشامخ خلفها، فهي تعاند الزمن والتاريخ والواقع، وتتوقع مستقبلاً أفضل بعزيمة أهلها وقدرتهم على تطويع الصعاب ومجابهتها ..
> قبيلة الأحامدة لديها إدارة أهلية تتكون من عموديتين ومحكميتين أهليتين، بقيادة العمدة الحاج محمد العقيد جبرائيل عمدة الرواد، والعمدة الصادق النور حمّاد عمدة المقينص. وتعتبر الأحامدة من القبائل المنتشرة في السودان ولديها وجود فاعل في الحركة الاقتصادية والسياسية وخدمة القضايا الوطنية، ووجودها كحارس للتراب الوطني، تستحق هذه المناطق مزيداً من الاهتمام الحكومي ودفعاً للاستقرار، خاصة الرحل من هذه القبائل في المنطقة التي يعتبر وجودها في هذه المنطقة ضامناً أكبر لحدودنا ومحافظاً عليها ..
> زرنا خيرة أبناء السودان في شركة الرواد للبترول في معسكرهم بالرواد وهم خيرة أبناء السودان من مهندسين وفنيين وإداريين يعملون في جد واجتهاد وتحدٍ، بخبراتهم وجهدهم السوداني الخالص، حيث لا توجد أية عناصر أجنبية أو شركات من الخارج، وقطعنا أنا ومحجوب فضل بدري مسافة 35 كيلومتراً من المقينص الى معسكر شركة الرواد للبترول حيث مد خدمة الاتصالات والانترنت لإرسال مقالاتنا التي بين يدي القارئ اليوم، وهذا أبرز تعبير عن حاجة المواطنين في هذه المناطق الطرفية لخدمات الاتصالات .
> على الصحافيين والإعلاميين الانفتاح أكثر على الريف السوداني العريض، ففيه متعة مع هؤلاء البسطاء وملح الأرض لا تدانيها متعة، هم النقاء السوداني الأصيل والصفاء الوطني الأجمل، ويحتاج هؤلاء أن نهتم بهم ونتناول قضاياهم ونستعرض معاناتهم، هم يعطون بلا مقابل ويتحملون أوزار السياسة وأخطاءها ..

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة

Exit mobile version