(1)
وددت لو أن الذين يقومون على صناعة السياسية الخارجية السودانية وإدارتها، إن كان ذلك يحدث فعلاً بنهج مؤسسي فعّال، استمعوا إلى تعليق محلل عسكري سعودي رفيع حول رؤيته لدوافع مشاركة السودان في تحالف عاصفة الحزم، في الحلقة المتلفزة التي شاركنا فيها محلل تركي بقناة الحرة الأمريكية عن الضجة التي رافقت زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان للخرطوم وتبعاتها، وما إن كان ذلك سيشعل سباق محاور في المنطقة.
(2)
ففي معرض تعليقه على مشاركة السودان في تحالف عاصفة الحزم، بادر اللواء الدكتور علي التواتي القرشي إلى القول “لا تعجبني عبارة يرددها المسؤولون في السودان، أن مشاركتهم في التحالف بغرض الدفاع عن الحرمين لأن ذلك واجب ديني”، وأضاف في صيغة استنكار “حماية الحرمين مسؤولية أهل الحرمين، وليست مسؤولية السودان، ولو حدث ذلك سيهب كل المسلمين سنة وشيعة للدفاع عنها”، وقال القرشي معزّزاً ما ذهب إليه “لا يجوز أن يركّز، يقصد السودان، إعلامياَ على ذلك لأن أرض الحرمين لها رجالها، وهي قادرة على حماية نفسها”.
(3)
لا شك أن هذا التعليق من محلل عسكري سعودي، كان قريب عهد ضابطاً عاملاً في القوات المسلحة الملكية، فضلاً عن أن طبيعة النظام السياسي السعودي تجعل هذا التحليل أبعد من حصره في وجهة نظر شخصية، يدلق ماءاً بارداً بل وصادماً للمسؤولين السودانيين الرفيعي الشأن الذين للغرابة لا يزالون حتى الأمس القريب يرددون هذه المقولة “المستهجنة” في تسبيب الدخول في حرب خارجية بدواعي دينية لا محل لها في الإعراب في سياق ما ينبغي أن تخدمه السياسة الخارجية للمصالح الوطنية لاعتبارات موضوعية ومنطقية وليس لخدمة شعارات أيدولوجية مبهمة.
(4)
في الواقع فإن المحلل العسكري السعودي لم يكتف بإظهار إنزعاجه من النزوع الرسمي السوداني لتبرير الدخول في حرب اليمن بواجهة “دينية” رأى فيها “انتقاصاً لقدرة أهل الحرمين للدفاع عن أرضهم”، بل تبرع بإيراد جملة من الدوافع لتفسير المشاركة السودانية في التحالف العربي من بينها قوله “إن السودان لا يخدم المملكة بوجوده في اليمن، بل يخدم استراتيجية أمنه القومي ومصالحه الوطنية في جنوب البحر الأحمر، وانه يخدم نفسه ضمن وجوده في قوات التحالف”، ولعمري فإن هذا تفسير منطقي وتحليل موضوعي محل نظر، لم أسمع أي مسؤول سوداني يذكره باعتباره من أسباب الانخراط في حرب اليمن، بخلاف ترديد ذلك المبرر الأيدولوجي المبهم.
(5)
من الواضح أن هذا المثال الذي أوردته هنا بإيجاز يكشف عن عمق جانب من إحدى إشكاليات السياسة الخارجية السودانية، ومأزقها الراهن الذي جعل السودان محشوراً ومتجاذباً يتمايل بين الأطراف الأكثر حضوراً حيوياً في سباق المحاور في المنطقة والإقليم على حد سواء، إذ لا يكفي الاكتفاء بالنفي الرسمي بعدم انخراط السودان في صراع المحاور الذي يجري على أشده، فالواقع الماثل أكثر تعبيراً عن حالة “التوهان الدبلوماسي” التي يجد السودان نفسه منخرطاً فيها حتى دون أن يكون ساعياً لذلك بالضرورة، ولكن غياب الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية، وهو بالضرورة نتاج الافتقار إلى تعريف معلوم راكز ومتفق عليه لمحددات ومهددات الأمن القومي السوداني ومصالحه الوطنية الاستراتيجية.
(6)
ولذلك تبدو السياسة الخارجية السودانية كثيرة المظاهر في إبراز تعدّد العلاقات والحرص على الاحتفاء بها، قليلة المردود على أرض الواقع في تحقيق المصالح الوطنية وخدمة المنافع الاقتصادية، وما حال أوضاع السودان الاقتصادية المتداعية المشهودة في الوقت الراهن إلا دلالة على عدم انعكاس هذه العلاقات الخارجية الحميمة المتخيلة مع أكثر من دولة على خدمة أجندة حقيقية لدفع الاقتصاد السوداني، صحيح أن الأزمة الاقتصادية في أصلها هي نتاج عجز داخلي، ولكن ما معنى علاقات علاقات خارجية وانخراط في تحالفات قتالية لا تحقق اختبار مغزى “الصديق عند الضيق”.
(7)
وفي الحقيقة فإن مأزق السياسة الخارجية السودانية الراهن ليس وليد حادثات اليوم، فهو داء قديم على الأقل في العقود الثلاثة الأخيرة وقد رافق العهد الإنقاذي منذ ميلاده الذي بدأ أيدولوجياً ثورياً بشعارات دينية إطلاقية وممارسات خارجة عما هو مألوف في عالم العلاقات الدولية بلا زاد من توازن قوة يعتد بها، كما لم يكن لفكر رجال الدولة فيها نصيب، وكان نتاج تلك المغامرات الطائشة بلا حساب للمآلات أن ورّطت البلاد والعباد في استحقاقات لا تزال تدفع فواتير ذيولها الباهظة حتى اليوم.
(8)
وما يؤسف له أن عبرة أدلجة السياسة الخارجية لم يبرأ منها الحكم الإنقاذي إلى يوم الناس هذا مما أوردناه من مثال آنفاً في شأن تحالف عاصفة الحزم التي كلّف الانتقال إلى محورها البلاد شططاً بفقدان أنفس عزيزة، وانخراط في محور كلّف علاقة مع دولة مهمة في المحيط الإسلامي، وهي للغرابة قطيعة غير مبررة ثمناً للدخول في هذا الحلف الذي لم يقدم أصحاب الشأن أنفسهم على فعلها، ودون أن يعرف أحد وجه المصلحة الوطنية المتحققة منها، فحماية الحرمين واستعادة الشرعية في اليمن ليستا في قائمة الاستحقاقات الدستورية ولا الواجبات القانونية، ولا حتى في باب رعاية المصالح الوطنية المتوازنة، ولا من سعة أفق السياسة الخارجية الواعية بتدابير العلائق الدبلوماسية.
(9)
صحيح أنه جرى تراجع عن أدلجة السياسة الخارجية منذ منتصف تسعينيات القرن المنصرم، بعد طامة حادثة أديس أبابا وما جرته من وقوع السودان تحت طائلة العقوبات الدولية التي تواترت لأسباب مختلفة ومتغيرة ارتهنت مصير البلاد لضغوط غربية كثيفة، ولكن لأن هذا التراجع لم يكن نتاج مراجعات سياسية جذرية، وفهم أعمق لميدان السياسة الدولية ودروبه الوعرة، ووعي بأساليب الدبلوماسية العريقة وإمساك بفنونها الرفيعة، وامتلاكاً لقدراتها، فقد تحولت تلك التراجعات إلى مجرد تنازلات عن المواقف، وعروض مغرية للخدمات المجانية رجاءاً في نيل رضا القوى الغربية الكبرى، لا سيما الولايات المتحدة، دون إنتباه كاف إلى توازنات لعبة الأمم وما تتيحه من آفاق خروج من المآزق.
(10)
وهو وضع استغلته واشنطن على أحسن ما تبتغيه من استغلال لتحقيق مصالحها دون اعتبار لدفع مقابل لخدمات تحصل عليها مجاناً، واستخدمت الرغبة الجامحة للتطبيع معها في تمرير أجندتها الواحدة تلو الأخرى، فإذا اتفاقية السلام التي كان يتم الترويج لها بحسبانها استقلالاً ثانياً للسودان وأعظم إنجاز للانقاذ، كان الرئيس البشير هو من عاد لوصفها أكثرمن مرة علانية بأنها مؤامرة أمريكية أدت لتقسيم السودان، وأنها لا تزال تتآمر للمزيد من التقسيم، في وقت لا يزال السودان يكابد لرفع اسمه من لائحة الإرهاب التي اتضح أنها تمثّل فيتو جعل من خطوة رفع العقوبات عن البلاد حبراً على ورق، ومع كل الذي ظل يدفعه السودان من تعاون مفتوح وخدمات جليلة في مجال مكافحة الإرهاب منذ منتصف العام 2000، فإن حصيلة ذلك المزيد من الضغوط المختلفة، فلماذا تتخلى واشنطن عن سياسية تبيض لها ذهباً مجاناً مما جعل السودان الحليف الأرخص ثمناً، أو بالأحرى بلا حاجة تضطرها لتدفع له شيئاً.
(11)
ومأزق السياسة الخارجية يتضح أيضاً في اضطراب أمر علاقات السودان بجواره الأقرب، وليس أدّل على ذلك ما يجد نفسه فيه محسوباً في علاقة محورية مع الجارة إثيوبيا، في ظل عدم وضوح رؤية وحسابات دقيقة في العلاقة مع مصر التي ظلت نهباً للتوتر والتحسن النسبي صعوداً وهبوطاً، وهو نتاج لاعتبارات الحزازات والحساسيات الذاتية بأكثر من ارتباطها بحسابات المصالح الاستراتيجية الموضوعية، فليس هناك علاقة سوية بين الدول تقوم على الصداقة الدائمة ولا العداوة الدائمة، بل المصالح الدائمة هي مقياس الفلاح في السياسة الخارجية بقدر ما تخدم الأجندة الوطنية.
(12)
وليس سراً ان موضوع سدّ النهضة كانت رمانة ميزان العلاقات بين الدول الثلاث، غير ان ظاهر التعاطي السوداني الرسمي مع الملف في أحيان كثيرة، على نحو اعتباطي غير مدروس جعلته يبدو ملكياً أكثر من الملك، دون اعتبار كاف لمصالحه الوطنية وتوازنات علاقاته، قادت لأن يبدو دوره تابعاً بدلاً من ان يكون عامل توازن، فعوامل الجغرافيا تحتم أن يستقل السودان بدور دقيق التوزان، فلا إثيوبيا ولا مصر ستغادران الجوار، كما أن أياً من الدولتين لن تتبرع بالتنازل عن مصالحها من أجل السودان، وبالتالي ليس هناك ما يدعو السودان لأن يكون متنازعاً أو منحازاً، عليه أن يخدم مصالحه ومصالحه فقط.
(13)
ومن الصعب تصور سياسة خارجية فعّالة ذات أثر خادم للمصلحة الوطنية دون نظر عميق في شأن السياسة الداخلية المحقّقة للأمن والاستقرار والسلام وتجميع الطاقات الوطنية، لقد تسبّبت طرائق الحكم الإنقاذي في التمكّن المطلق من السلطة من تجريف الحياة السياسية بعملية طرد مركزية غير مسبوقة، واستئثار بالسلطة والثروة واقصاء للآخر جعلت ممارسة المعارضة السياسية من خارج الحدود هو الأمر الغالب، ولم يكن ذلك بلا مقابل فقد كانت حصيلته أن من تعتبرهم السلطات اليوم عملاء للخارج، لا تستنكف الجلوس معهم غداً في الخارج بأمر وساطات خارجية مفروضة في أحيان كثير بقرارات أممية وإقليمية فرضت وصاية فعلية على البلاد، وكان ذلك سبباً مباشراً في ان يجد السودان نفسه ضعيفاً في دوره الخارجي ومشاكله الداخلية لا يتم حلها إلا بإرادة خارجية، وفي مفاوضات تجري خارج البلاد على نحو جعل البلاد سلة مبادرات ومبعوثي العالم.
(14)
هناك الكثير مما يمكن أن يقال أو يورد من الأمثلة في شأن الاختلالات العميقة المزمنة التي تعاني منها السياسة الخارجية السودانية، ليس أقلها أن الكثير مما هو مسطّر في وثائقها الرسمية من عبارات فضفاضة أو أدوار متخيلة لا غبار عليها، ولكنها مع ذلك تبقى باردة بلا حراك بين دفتي هذه الوثائق في ظل غياب كبير لرسم السياسات عبر ممارسة مؤسسية راكزة وراسخة وإدارة دبلوماسية كفؤة لخدمة المصالح الوطنية وتحقيق متطلبات الأمن القومي تسندها أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية مستقرة لا يمكن تحقيقها بلا تراض وطني ينهي حالة التمكين السلطوي.
بقلم: خالد التيجاني النور
سودان تربيون