مرت على “حراك” 20 فبراير بالمغرب سبع سنوات بالتمام والكمال. وضعناه في حينه ضمن سياق انتفاضات “الربيع العربي” التي انطلقت شرارتها مطلع عام 2011 بتونس ومصر، وانتشرت عدواها -أو هكذا خيل إلينا- إلى عدة بلدان عربية، بسرعة تكاد توازي سرعة النار في الهشيم.
ومع أن الحركة لم ترفع شعار إسقاط النظام، فما بالك بإسقاط القائم على أعلى هرمه؛ فإنها قد تقاطعت -فيما سوى ذلك- مع جُلّ مطالب الحركات الاحتجاجية التي قامت هنا أو هناك، لا سيما على مستوى: القطع مع الاستبداد والفساد، وإقامة نظم حكم تضمن الحد الأدنى من الديمقراطية السياسية والعدالة الاقتصادية والاجتماعية.
انتهت موجات “الربيع العربي” كالحلم، ولم تخلف وراءها إلا غبارا دامسا، وخليطا من البارود والدم والجراح… وصل -على لسان حال بعض “الشعوب المنتفضة”- حدَّ قولها: يا ليتنا ما أقدمنا على ذلك، وسلمنا بمقولة حاكم غشوم خير من فتنة تدوم.
صحيح أن حركة 20 فبراير خلخلت أركان النظام وزعزعت مفاصل المنظومة، من زاوية كونها ثوت خلف تجسيد دستور “جديد”، عمل على توزيع للسلطات غير مسبوق، ومن منظور إعادة الاعتبار للإرادة الشعبية في اختيار من يدير أمور الحكم والشأن العام. وصحيح أنها فسحت المجال واسعا لانتخابات تشريعية سابقة لأوانها، أوصلت إلى السلطة حزبا إسلاميا.
بيد أن هذا المكسب -كما ذاك- سرعان ما أبان عن حقيقة أن نفَس الحركة لم يكن طويلا بما يضمن الاستمرارية لزخم الانطلاق، إما بسبب تباين مرجعيات مطالبها، أو جراء الالتفاف الذي طالها من النظام ذاته بما فيه الأحزاب السياسية؛ أي مما سُمي في حينه “الدولة العميقة”.
ليس ثمة شك في أن حركة 20 فبراير لم تكن الحركة الاحتجاجية الأولى في تاريخ المغرب المعاصر، إذ سبقتها حركات أخرى تمت معالجة بعضها بقوة النار والحديد، وتم الأخذ بمطالب الحركات الأخرى لا سيما تلك التي احتمت بالغطاء النقابي، أو تم تبني مطالبها ضمن مرجعية وبرنامج هذا الحزب السياسي أو ذاك.
لا تختلف حركة 20 فبراير كثيرا عن سابقاتها اللهم إلا في سعة مطالبها والالتفاف الجماهيري الواسع حولها في معظم المدن والقرى. والقصد هنا أنها لم ترفع لواء مطالب فئوية أو موسمية أو ذات خاصية قطاعية، بل رفعت سقف ذات المطالب لتطال مجال النظام والمنظومة على حد سواء.
ليس من باب التكرار بل من باب التذكير؛ القول بأن وهج حركة 20 فبراير قد توارى إلى الخلف، والدينامية التي أطلقتها قد جفّت ينابيعها، جراء تدافع سياسي لم يكن في صالحها، أو لم تستطع أن تبني عليه لتغيير موازين القوى أو توجيهها لفائدتها.
وليس من باب التكرار أيضا بل من باب استنباط العبر؛ القول بأن الحركة كانت تضم بين ظهرانيها عناصر ضعفها، وأسباب بلوغها “سن الشيخوخة” قبل الأوان:
– فالحركة لم تحتكم إلى رؤية محدَّدة تبني لها التصور والإستراتيجية وفرص الاستدامة، بل كانت حركة عفوية بامتياز، لا بل قل كان في عفويتها مكمن مقتلها.
والشاهد على ذلك لا يكمن فقط في مدى “اختراقها” من تنظيمات سياسية متباينة، كان لكل واحدة منها أجندتها الخاصة في وجه الدولة، بل في كونها لم تنجح في إفراز قيادة تدرك متى تضغط ومتى تفاوض ومتى تتراجع، أي متى تتقدم ومتى تتأخر.
ويبدو أن الحركة -في هذه الجزئية- تعاملت مع الواقع كما لو أن كل المساحات التفاوضية متاحة لها وحدها، لدرجة هونت كثيرا من ردود فعل السلطة وقدرتها على تفعيل آلياتها لامتصاص الغضب واستقطاب الغرماء، والعودة بالعملية برمتها إلى مربعها الأول، أي المربع الصفر.
ويبدو أيضا -في هذه الجزئية دائما- أن غريم الحركة الأول (“الدولة العميقة” بمنطوق الخطاب السياسي التداولي) إنما هو فاعل متمرس على تقنيات الترغيب والترهيب، ويحتكم إلى قدرة فائقة في تطويع الزمن، قبل الإقدام على إعمال هذا القرار أو الدفع بذاك. لقد استسهلت ردة فعله ولم تتوقع أن يباغتها من حيث لا تحتسب.
– “اشتغلت” حركة 20 فبراير في فضاء استبعدت الأحزاب السياسية والنقابات منه، على خلفية ادعاء -وهو ادعاء سليم إلى أبعد مدى- فسادها وترهلها، وانفصال توجهاتها وبرامجها عن مطالب الجماهير في الشغل والتعليم والصحة وغيرها.
يقول جمال بندحمان -وهو متتبع دقيق لتموجات الحركة- بخصوص هذه النقطة: “لم تكن الأحزاب ملزمة بتبني مطالب لم تكن هي صاحبتها. بمعنى أنها قد لا تكون جزءا من تصوراتها أو أهدافها المرحلية أو الإستراتيجية.
وحتى إذا افترضنا أن هذه المطالب مجتمعية، فإن تبنيها من قبل أحزاب لم تشارك في وضعها أو صياغتها يجعلها في وضع هش أو وضع مقدم خدمات. كما أن الحركة نفسها جعلت هذه الأحزاب في موقع انتقاد، علما بأن خوض المعارك يقتضي عدم استعداء الجميع، لأن في ذلك إضعافا كبيرا لوهج المطالب” (“أخبار اليوم”، 17/18 فبراير/شباط 2018).
– الحركة لم تدرك -أو أدركت متأخرة- أن مطالبها المتوسطة والبعيدة المدى لا يمكن إعمالها دون مسالك ووسائط ووساطات. وتلك مهمة الأحزاب والنقابات بامتياز.
لقد دفع هذا السلوك العفوي الحركة إلى تنفير الأحزاب منها، عوض أن تجندها لترجمة ذلك إلى فعل مؤسساتي موحَّد، أي إلى قرارات بنيوية كبرى وإلى سياسات عمومية تترجم ذات المطالب إلى برامج عمل متوافق بشأنها.
كلها عناصر “قتلت الحلم في المهد”، رغم بعض المكتسبات المتواضعة التي تم إنجازها، وكانت لربما ضمن أجندة الدولة أصلا، من قبيل الإصلاح الدستوري أو إقامة حكومة مسؤولة أو ما سواهما.
ولذلك، فبعد سبع سنوات من الحرث والزرع والسماد والعناية، لم يكن المحصول ذا قيمة كبرى تذكر، أو لنقل إن ذات المحصول كان دون المستوى المراهَن عليه، والمصنف أصلا ضمن مجال الممكن.
والشاهد على قولنا بهزال المحصول إنما هو تواضع النتائج المحصَّلة، أي الآمال المعقودة على زخم الحركة والدينامية التي أفرزتها:
– أولا: على مستوى تفعيل الدستور؛ قيل حينها إنه مثال على “الاستثناء المغربي”، لكونه أعاد توزيع الأدوار والاختصاصات بين السلطات الثلاث، ونجح في ربط المسؤولية بالمحاسبة، أي كرّس منطق محاسبة من يتولى تدبير الشأن العام. وهذا أمر لا يتعذر التأكد من حقيقته بمختلف فصول ومواد دستور 2011.
بيد أن ذات القراءة لم تصمد كثيرا أمام محك الواقع والممارسة؛ إذ عوض أن تكون هذه الوثيقة الأساسية الكبرى عنصر وضوح وحسم، بدت مع مرور الزمن مادة للتأويلات والتفسيرات كادت -في ظل نتائج انتخابات 2016، و”فشل” عبد الإله بنكيران في تشكيل الحكومة- أن تعصف بروح الوثيقة جملة وتفصيلا.
صحيح أن الملك محمد السادس “نادى” شخصية أخرى من داخل الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات، لكن سيناريو تعيين شخصية أخرى من خارج ذات الحزب كان وارداً، لا بل وتم التلميح إلى احتماله ببيان مباشر للقصر، إذا تمنع الحزب في قبول بديل عن بنكيران من حزبه.
– ثانيا: على المستوى السياسي؛ التشكيلة الحكومية التي ترتبت عن تعيين سعد الدين العثماني رئيسا للحكومة لم تعكس وزن كل حزب حسب مقاعده البرلمانية، ولم تؤد إلى إفراز حكومة متناسقة تعمل تحت قيادة واحدة ووفق إستراتيجية موحدة. وهي تأكيدا حكومة هجينة يكاد كل عضو فيها يخضع لتوجيهات حزبه، عوض الانصهار في البرنامج الحكومي العام.
والشاهد على ذلك أن التشكيلة إياها عجزت -في الحد الأدنى- عن صياغة “ميثاق للأغلبية”، يضمن لها إن لم يكن توحيد الرؤية فعلى الأقل “سلامة” السلوك الأخلاقي في علاقات مكوناتها بعضها ببعض.
– ثالثا: على مستوى العلاقة بالحركات الاحتجاجية؛ ثمة تقصير بائن وجلي على هذا المستوى. إذ بصرف النظر عن أحداث الريف ذات “الوضعية الاستثنائية” (بمنطوق ما نرى ونسمع)، فإن الحكومة لم تأخذ العبرة كثيرا من حركة 20 فبراير. وما زلنا نعاين نفس سلوك الفاعل الحكومي مع الاحتجاجات الفئوية بنفس المنطق: تضميد الجراح عوض مداواة أصل المرض.
صحيح أن الاحتجاجات الأخيرة (جنوب وشرق المغرب) ذات طبيعة اقتصادية واجتماعية، ومن خاصية فئوية صرفة؛ إلا أنها تحيل -في بعض شعاراتها- على مطالب حركة 20 فبراير، لا سيما من زاوية استشراء الفساد وتغوّل المفسدين. فهل عدنا لمربع الصفر: مربع ما قبل 20 فبراير 2011؟
يعتقد البعض أنه لا شك في ذلك، على الأقل من زاوية أن الفساد لم يتراجع والعدالة لم تقم، وعلى الأقل بمقياس تزايد مدّ الأزمة واشتدادها (وقع إلغاء صندوق المقاصة، سن نظام الشغل بالتعاقد، تدهور التعليم وقطاع الصحة… إلخ)، وانسداد الأفق أمام سبل الإصلاح.
بيد أن ثمة من يذهب أبعد من ذلك بكثير ليقول وإن ببعض من المبالغة: نعم؛ لقد عدنا لمربع الصفر، لأن الملك لا يزال يسود ويحكم، لا بل هو صاحب القرار وما سواه من مستويات مؤسساتية -وضمنها الحكومة- مجرد أدوات للتنفيذ. تلك وضعية -في نظرهم- كانت سائدة ولا تزال، إذا لم يكن من منطوق الوثيقة الدستورية فعلى الأقل من زاوية الممارسة والعرف.
المصدر : الجزيرة