وزراء وولاة وصحافيون
ذهب الصحافي (الكبير) إلى وزارة الاستثمار بعد أن طلب موعدا في وقت سابق لمقابلة قوميسارها. لم يتناول كوبا من عصير القريب فروت في الصالون الملحق إلا ريثما دُعي الرجل إلى الدخول حيث استقبله نائب رئيس الوزراء ووزير الاستثمار ودعاه للجلوس. هناك فتح الصحافي مظروفاً أخرج منه بضعة أوراق عرضها على المسئول الكبير. خلاصة ما عند الصحافي مشروع إعلامي لتزيين وجه الوزارة وانجازات الوزير ثم تقديرات التكلفة والمبلغ النهائي المطلوب من الوزير – أو بالأحرى الوزارة – دفعها.
اعتذر الوزير بأن وزارته يشتمل هيكلها التنظيمي على قسم للإعلام والعلاقات العامة ولن تحتاج لخدمات الصحافي ومشروعه، كما أنه ليست للوزارة ميزانية لــ (تزيين الوجه). ثم وقف الوزير وطلب من سكرتيره إدخال الشخص التالي في جدول المقابلات.
خرج الصحافي مدحوراً مقهوراً وانطلق لتوه إلى منضدته حيث جلس وكتب سلسلة اعمدة يشتم فيها الوزير ويهاجم أداء الوزارة.
ولو كنت، أعزك الله، من المواظبين على قراءة صحيفة (السوداني) فلا بد أن تكون قد قرأت عن هذه الواقعة المؤسفة، إذ كانت هي الصحيفة الوحيدة التي تجرّأت على نشرها، خلافا لرؤية سائدة في الوسط الصحافي بضرورة التزام فضيلة الستر وإقالة عثرات الكبار من بين منسوبي المهنة.
لم تكن تلك كبوة جواد عابرة وإنما هي منهج حياة وسلوك مستديم ومنتظم عند هذا الصحافي وبعض أصحابه وحلفائه الذين جعلوا من الصحافة مطية للثراء تحت لافتة تقديم الخدمات الخاصة لوزارات الحكومة وولاياتها. حتى أن أحد المنتمين إلى هذه العصبة، أو بالأحرى العصابة، اعترف علانية وعلى رؤوس الأشهاد في حوار منشور، وقد غابت عن وجهه مزع الحياء، عندما واجهه بعض الشرفاء من أهل المهنة بأنه وعصابته يطوفون الولايات ويغترفون بغير حق من خزائن أموالها العامة يبذلها لهم الولاة الطامعون في المدح الكاذب، اعترف بأنه وصحبه تسلموا بالفعل أموالا من الولاة مقابل خدمات إعلامية قدموها لهم! هل أقول لك، رعاك الله، ما هي طبيعة تلك الخدمات؟ أم أن في ذكائك سطور الإجابة؟
قبل فترة قصد ذات الصحافي (الكبير) عاصمة ولاية الجزيرة وطلب لقاء واليها. وهناك بسط أوراق المشروعات الإعلامية الوهمية أمام الوالي وحدثه عن مشروع يتزين به الوالي والولاية، ثم شفع حديثه بطلب المال. ولكنه أيضا خرج من مكتبه وقفل عائدا إلى الخرطوم ممروراً مكسور الخاطر. شكره الوالي وأخذ الأوراق وطلب منه الانصراف. ولو كان صاحبنا من أهل النهى لعرف ما يعرفه المنتمون إلى مهن الإعلام بأنواعها وهي أن محمد طاهر إيلا لا يدفع فلساً واحدا، لا من المال العام ولا من المال الخاص، مقابل هذا الصنف من الخدمات. ولو كان يفعل لما كان اسمه محمد طاهر إيلا، ولما كان على ما هو عليه في يومه هذا من مهابة وعزّ وسؤدد.
ولكن الذين دفعوا وما فتئوا يدفعون كثر. فمثلما يخرج صاحبنا، رائد صحافة الابتزاز وحلب المال العام واستدراره من مظانه، خاسراً من بعض المكاتب والصوالين فإنه يخرج ظافراً من مكاتب وصوالين أخرى كثر. وتلك هي المعضلة التي يواجهها الأحرار من الصحافيين اليوم، وهم يكابدون أخبار المخازي التي تلحق بمهنتهم وقد جعل منها أمثال ذلك الصحافي تكئة للبلطجة والابتزاز وتكديس المال حتى اجتمع عنده من عقاره ومنقوله وسائله ما يحسده عليه تجار المخدرات.
ولكنني مع ذلك لست معنياً في يومي وفي موقفي هذا بفساد بعض المنتمين إلى مهنة الصحافة من أمثال صاحبنا. وإنما يعنيني في المكان الأول حالة الضعف والمهانة والخَوَر التي تكتسي نفراً من شاغلي الوظيفة العامة بالتعيين الدستوري، ممن كان ضعفهم ومهانتهم وخورهم مدخلا إلى أن تكون مثل هذه الظواهر واقعاً معاشا في حياتنا العامة.
ليت هؤلاء يعرفون ويتمثلون قول المولى عز وجل في التنزيل المجيد (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)، فيعلمون أن (المُلمّع) هو الله، وأنهم ليسوا في حاجة إلى نصابين ودجاجلة بغير ضمير ولا كرامة، يخضعون لابتزازهم يمكنونهم من المال العام لقاء أوسمة زائفة.
أما الصحافي (الكبير) النصاب فقد وقع في شر أعماله بعد أن بلغ به الشره والطمع كل مبلغ. تحالف صاحبنا مع بعض الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ممن أوهموه بأنهم قادرون على الوقوف أمام المد المتلاطم من قوى حزب المؤتمر الوطني في الولايات والعاصمة التي تدعو إلى تعديل الدستور وانتخاب الرئيس عمر البشير لدورة جديدة، ومن ثمّ فرض شخصية أخرى للرئاسة، يكون بعدها القائد الحقيقي لحركتهم نائبا أول لرئيس الدولة ورئيس الوزراء!
وهكذا انطلق صاحبنا كالبوم الأصنج يسوّد عموده كل صباح، في همة وحماسة بكافة أصناف السخرية والاستهزاء والإساءات المبطنة يوجهها إلى رئيس الجمهورية، يبتغي رضاء النائب الأول ورئيس الوزراء القادم، على ظن من الوهم أنه يقدم السبت، عسى أن تنفتح له المغاليق غداة الأحد، فيعبُّ عبّا ويكنس كنساً. أو لعله يصبح وزيرا، قولا واحدا، فلا يكون له دون المال العام من عاصم!
فلينتظر صاحبنا الموعود بالذهب والفضة إذن، فإن غداً لناظره قريب!
بقلم
مصطفي عبدالعزيز البطل
السوداني