بعد أن رأى في النخبة السودانية “الفشل”،يعود السياسي منصور خالد لينعتهم بالكاذبين؛ لما اعتادوا على هذه الصفة ؟

في الثمانينيات كان الوزير السابق في حكومة مايو القيادي الجديد في الحركة الشعبية لتحرير السودان وأحد المنظرين لمشروع السودان الجديد، الدكتور منصور خالد، يصدر الطبعة الأولى من كتابه (النخبة السودانية وإدمان الفشل)، بالطبع وقتها كان السودان دولة تمتد مساحتها في مليون ميل مربع، اضطرت منصور الكاتب أن يتناول أزماتها ومشكلاتها في كتاب آخر أسماه (السودان قصة بلدين)، ما كان مجرد حروف يمكنك أن تقرأها صار حقيقة تمشي على (دولتين)، منصور الذي عاد ليجلس مستشاراً في القصر الجمهوري وشاهد عيان على حدث انفصال الجنوب رغم أنف مشروع السودان الجديد القائم على التعدد وقبول الآخر، بعدها بعامين خرج منصور ليقول إن ما حدث ما كان ليحدث، لو أن الدكتور وعراب المشروع جون قرنق موجود، وأن الموت لم يسبق السودانين على الوحدة.
1
في آخر ظهور له على وسائل الإعلام في حوار مع رئيس تحرير صحيفة التيار، يستخدم منصور خالد نعت جديد للسياسيين السودانيين، فهم بحسب خالد محض (كاذبين)، يستدعي منصور ساعتها ما حدث أثناء فترة مقاومة الاستعمار حيث قامت الحركة الوطنية بتعبئة الشارع السوداني بضرورة الوحدة مع مصر، وحين جاء وقت تنفيذ هذا الوعد قالوا إنهم يعلنون استقلال السودان، هذا كذب صريح وهو أمر من شأنه ان يجعل كل قارئ ومتابع للتاريخ السياسي السوداني أن يقف في محطة تأكيده على ان السياسة في هذه البلاد تمضي على اقدام الكذب، وبالطبع يفتقد القائمون عليها شجاعة الاعتراف بأخطائهم التي يدفع فاتورتها الشعب السوداني في نهاية المطاف.
2
لكن نعت الأكاديمي والسياسي لأعضاء النادي في بلاده بالكاذبين عبر استدعاء ما حدث في التاريخ يفرز سؤالا آخر هل هذا الأمر مجرد حدث تاريخي أم أنه فعل يتخذ صفة الاستمرارية وهل انتهى بانتهاء حقبة الاستعمار ام انه يعود وعبر نسخ أخرى؟ بالنسبة للكثير من المتابعين للمشهد السياسي السوداني هو فقط مشهد لإطلاق الكذبة ومن ثم تصديقها أمر بدا ماثلاً لدى معظم أصحاب المشاريع السياسية في البلاد.
يضيف الناشط السياسي والمنضوي تحت لواء الحزب الاتحادي الديمقراطي سابقاً وائل عمر عابدين (التناقض) في ما يتعلق بالأطروحات السياسية للأحزاب السودانية، وهو يستدعي هنا تركيزها على ضرورة إنجاز ملف الحريات والديمقراطية في نزاعها مع النظام الحاكم هي تدعو لتبني نهج ديمقراطي تفتقر إليه في حقيقة الامر حين يتعلق بتمسك قياداتها بمناصبهم طوال تاريخ الحزب السياسي، وبالطبع تاريخهم هم في الحياة فلسفة التغيير لدى القادة الحزبيين السودانيين لا تصل لمرحلة مغادرتهم كراسيهم مهما حدث.
3
بالنسبة لرئيس قسم العلوم السياسية بجامعة النيلين المحلل السياسي الدكتور عوض أحمد سليمان فإن استخدام نعت (الكذب) في ما يتعلق بالساسة السودانيين من قبل منصور خالد يأتي في سياق نظرية النقد العام التي يستخدمها المفكر في ما يتعلق بالسياسة السودانية، فهي لا تبدو بعيدة عن سياق إدمان الفشل في كتاباته بشكل كبير، وللأسف فان العبارة وحين وضعها على واقع ما يفعله السياسيون السودانيون تحتوي على درجة كبيرة من الصحة، كما أنها تجيء في اطار محاولة هؤلاء في تعظيم مكاسبهم وسط الجماهير وزيادة شعبيتهم بشكل عام، وهو الأمر الذي يرتبط بشكل كبير بطبيعة الضوابط الاجتماعية التي تتحكم في المجتمع السوداني وآلية الولاءات لدى القيادات السياسية التي وصفها خالد ايضاً بأنها تشبه الولاءات التي يضعها البعض على القيادات الدينية حين ينعت رئيس الحزب السياسي بأنه فكي الحزب، وأنه لا اختلاف بين الأول والأخير في شيء.
4
يبدو السؤال الرئيسي هنا هو لماذا يكذب السياسيون السودانيون؟ بعيداً عن النعت الذي لا يبدو غريباً في استخدامات منصور خالد، فإن عادة الكذب لا تبدو رهينة بالسياسيين السودانيين وحدهم بل تكاد تكون ظاهرة عامة لدى الساسة مع بعض الاستثناءات، مما يجعل السؤال ليس هو المتعلق بالفعل نفسه وانما باستمراريته لسنوات، ببساطة الأمر يتعلق هنا باستقبال المجتمع نفسه لكذب السياسي، حيث يرى البعض انه في دول العالم الثالث يمثل احدى ادوات الصعود لأعلى، بينما في دول العالم الاول ان حبل الكذب هو الحبل الذي يخنق تاريخ ومستقبل السياسي ويجعله خارج سياق اللعبة، أنت تكذب فأنت لا تستحق الاستمرارية. المشهد تكرر في دول كثيرة وعلى رأسها ما حدث في فضيحة بيل كلنتون مع مونيكا، هيئة المحلفين الأمريكان ساعتها لم تكن تحقق في العلاقة بين الاثنين وإنما كانت تحاسب الأخير بتهمة الكذب، التهمة التي دفعت الكثيرين للوصول إلى محطة الاستقالة ومغادرة كراسيهم. في تناوله لظاهرة الكذب يؤكد منصور خالد أنها أحد العوامل التي قادت في آخر المطاف هؤلاء لإدمان الفشل في بناء دولة تحترم التعدد والاختلاف بين مكوناتها وتقطع الطريق على دعاوى التقسيم والشرذمة.

اليوم التالي.

Exit mobile version