لماذا نحب الأعمال المنزلية حين تكون اختيارية؟

منذ زمن طويل، والأعمال المنزلية من تنظيف البيت وإعداد الطعام والعناية بكل ما يخص المنزل، هي مهمة المرأة الأولى وقدرها في معظم المجتمعات البشرية. فالكثير من المجتمعات تلزم المرأة -أما وزوجة وأختا- بمهمات العمل المنزلي. ربما لا تشعر معظم النساء بالارتياح تجاه هذا العمل غير المأجور الذي فُرض عليهن، إذ يقمن به لكي يتخلصن من واجب ثقيل ورتيب. قد لا تشعر النساء بالامتعاض من ممارسة الأعمال المنزلية في حد ذاتها بقدر سخطهن لأن عملهن لا يحظى بالتقدير والاحترام الكافيين من قبل المجتمع، فالمرأة التي لا تعمل خارج البيت، لا يُنظر إلى عملها بعين الاعتبار ويعتبرها المجتمع “مجرد ربة منزل”.(1)

في الوقت نفسه، يأخذ العمل المنزلي مسارا مختلفا عندما يكون اختياريا. ففي كتابه “جماليات المكان” يقتبس غاستون باشلار من مذكرات ريلكه اقتباسا طويلا من رسالة كتبها الشاعر إلى موسيقية، يصف فيها استمتاعه البالغ بوحدته في المنزل وقيامه ببعض أعمال التنظيف والترتيب، يقول في جزء من هذا الاقتباس: “كنت وحيدا بشكل رائع… كنت إمبراطورا أغسل أقدام الفقراء، أو القديس بونافنتيور يغسل الأطباق في صومعته”، ويعلق باشلار فيكتب: “كان وحيدا مثلما نكون في بداية كل فعل حقيقي، لا يجبرنا أحد على عمله”. لذلك يرى باشلار أن الأعمال البيتية يمكنها أن تتحول إلى فعل خلاق عندما نضيف فيها لمحة من الوعي، “ذلك لأن الوعي يجدد كل شيء، مانحا صفة البدء لمعظم ممارساتنا اليومية”.(2)

إن باشلار يرى في كل إنسان روح (شاعر)، وعندما يحضر وعي الشاعر داخلنا أثناء ممارسة عمل مألوف، تتولد انطباعات جديدة تحت سطح هذا العمل الرتيب، فحين يلمّع الشاعر قطعة من الأثاث، أو حين يضع قطعة من الشمع المعطر على سطح طاولة، مستخدما قطعة من القماش الصوفي، تمنح دفئا لكل ما تلمسه، فإنه بذلك يخلق شيئا جديدا، إنه بحسب باشلار “يدعم الكرامة الإنسانية في قطعة الأثاث، ويسجل هذه القطعة رسميا كفرد من البيت الإنساني”.(3)

في كتابه (حدائق الزنابق) كتب هنري بوسكو: “تخلل الشمع الطري المادة المراد تلميعها تحت ضغط اليدين والدفء الفعال للقطعة الصوفية. ببطء أخذت الصينية لمعة كابية، وبدا الإشعاع الناتج عن الاحتكاك المغناطيسي، وكأنه يصدر عن نسج الخشب العتيق الذي يبلغ مائة سنة من العمر، بدا وكأنه يشع من قلب الشجرة الميتة، وينتشر تدريجيا على شكل ضوء في الصينية كلها. الأصابع، العجوز، والكف العريضة، استخرجت من الكتلة الصماء بأليافها الميتة، قوة الحياة الكامنة فيها. كان هذا خلقا، خلقا حقيقيا تم أمام عيني المبهورتين”.

يعلق باشلار بأن الأشياء التي تعامل بهذا الحب، تتخلق من جديد بإحساس حميمي، فهو يرى أنها بهذه الطريقة تبدو لنا أكثر واقعية من الأشياء التي لا تملك سوى حيزها الهندسي، أو الأشياء المحايدة، لذلك فإن هذه الأشياء تخلق واقعا وجوديا جديدا، تتحول من قطعة لها حقيقة هندسية مجردة إلى جزء ليس فقط ضمن نظام بل ضمن نظام عائلي، يكتب: “إن عمل ربة البيت في تنظيم قطع الأثاث في الحجرة، والانتقال من هذه الغرفة إلى تلك، ينسج علاقات، توجٍد ماضيا قديما جدا مع عهد جديد، إن ربة البيت توقظ قطع الأثاث من نومها”. فالبيت الذي يضيء بسبب العناية بكل جزء فيه للمحافظة عليه حيا، يبدو لنا جديدا وكأنه قد أعيد بناؤه من الداخل.

البيت تبنيه النساء من الداخل، لأن الرجال يعرفون كيف يبنون البيت من الخارج، لكنهم لا يعرفون إلا القليل، بل لا يعرفون على الإطلاق شيئا عن إشعاع الحضارة الداخلي، حضارة الشمع

-غاستون باشلار

إليانور بيست (1875-1957)، امرأة تنفض الغبار. كل شيء في هذه اللوحة نظيف وأبيض، حتى ملابس الخادمة تضيء بلمعان خفيف، ربما تعرف الخادمة كل قطعة فوق المدفأة جيدا، نشعر أنها وقفت للحظة لاستعادة ذكرى مع إحدى هذه القطع.

الأعمال المنزلية في الأدب والشعر
يرى باشلار أنه لا يوجد كاتب استطاع دمج حلم اليقظة من الاسترخاء بالعمل البيتي، ودمج أشد أحلام اليقظة سعة بأقل الأعمال اليدوية شأنا مثلما فعل (هنري بوسكو) حين كتب واصفا الخادمة العجوز المخلصة سيدوان:

“كانت تلك فرصة للسعادة لا تسبب اضطرابا لحياتها العملية بل تعززها وتنعشها، عندما تغسل شرشفا أو غطاء مائدة، أو حين تلمع شمعدانا نحاسيا، تنبثق انتفاضات صغيرة فرحة في أعماق قلبها، باعثة حيوية مدهشة في عملها المنزلي، لم تكن تنتظر حتى تنتهي من عملها، بل كانت خلال ذلك تنطوي على نفسها وتتأمل بكل رضى القلب، الصور السماوية التي تقطن هناك، الواقع أن المخلوقات العلوية تبدو لها مألوفة مهما كان العمل الذي تقوم به عاديا، ودون أن يبدو عليها أنها تحلم، كانت تغسل وتنفض الغبار وتكنس، وهي في صحبة الملائكة”.

وفي رسالة بعثها فنسنت فان جوخ إلى أخيه ثيو، يقول: “علينا أن نستعيد جزءا من الشخصية الأصلية لروبنسن كروزو”، فكما بنى كروزو وأعاد خلق كل شيء من جديد، علينا أن نعيد أيضا خلق كل شيء بأنفسنا ومنح بيوتنا طابعا شخصيا، وأن نقوم بكل “الايماءات التكميلية” بتعبير باشلار نحو كل الأشياء، وبهذا نمنح وجها جديدا لكل ما في البيت. وحين يريد باشلار أن يجعل يومه مليئا بالنشاط يقول: “علي في كل يوم أن أتذكر القديس روبنسون”. إن قراءة نصوص كنصوص ريلكه وهنري بوسكو وفان جوخ، تضفي سحرا على ذكرياتنا، حين نشعر أننا عشنا لحظات كتلك التي يتحدث عنها الأديب وتلك التي يرسمها الفنان.

الإنسان قادر على أن ينذر نفسه للأشياء ويمتلكها، من خلال جعل جمالها كاملا، إن إضافة القليل من الجمال لشيء يجعله مختلفا تماما

فرناندو أمورسولو، فتاة تعد الطعام 1959. اللوحة هنا دافئة جدا، الأحمر والأصفر والبرتقالي يسيطرون على اللوحة، ويشعروننا بأننا أيضا مثل الفتاة نحس بحرارة الموقعد، تلك الطريقة القديمة في الطهو تحمل قدرا كبيرا من الحميمية. (مواقع التواصل)

تبني ربة البيت الحالمة علاقة خاصة مع الخزانات، خصوصا ذلك الجزء الخاص بالبياضات والشراشف وأشرطة الدانتيل، ففي الخزانة يوجد نقطة النظام المركزية تحمي البيت بكامله من الفوضى التي لا ضابط لها، تقول الشاعرة كوليت فارتس:

ففي فرنسا هناك عادة، حيث يضعون الشراشف في الخزانات أطول وقت ممكن لكى تتشبع برائحة الخزامى المهدئة، مما يثير فينا الذكريات التي تأتي متزاحمة كلما رأينا في الخزانة شرائط الدانتيلا وقطع الحرير الطبيعي والشراشف مصحوبة برائحة الخزامى، فالروائح مرتبطة دائما بالذكريات، يقول ميلوز: “الخزانة ملأى بضجيج الذكريات الأخرس”، وتقول آن تورفيل عن زوجة حطاب فقير: “أخذت تفرك الخزانة، وكانت الأضواء تتراقص على سطحها مفرحة القلب”.

“كم هي حياة رائعة إذا كنا كل صباح نستطيع أن نجعل البيت جديدا بأيدينا، حين نجعله ينبثق من بين أيدينا جديدا كما كان”

-غاستون باشلار

Exit mobile version