بكثير من الصراحة، وفاصل من السخرية، يفاجئ الكاتب والممثل الأميركي “ستيف هارفي” محاورته على قناة “CNN” في حديثهما عن الصداقة أنه لا يمتلك أي صداقات من جنسها الأنثوي، وأن كل أصدقائه -فقط- من الرجال، لأنه، وبمنتهى البساطة، لا يقدر على مرافقة أنثى بغير زواج.
“أنتِ امرأة جذّابة، لذا قد تجدين رجلا يصف علاقتكما معا بالصداقة، ولكنّي أقول لكِ: هذا ليس صحيحا”
بهذه الكلمات يمهّد “ستيف” إلى منطقه، ليردف: “هو يخبرك بهذا، لأنكِ لا ترين العلاقة إلا في هذا الإطار، لكننا نظل أصدقاء على أمل انفتاح الباب أو انشقاق الدرع بالصورة التي تسمح لنا كرجال من تجاوز مساحة الصداقة”. تسأله المحاورة: هل كل الرجال مثلك؟ ليجيبها “هارفي” أن: “99.99% منهم يفكرون هكذا. أقول لكِ مثلا: حاولي أن تسألي أحد أصدقائك عن استعداده لتحويل صداقتكما إلى علاقة غرامية، ثم استمتعي بعدها بعرض الألعاب النارية الذي ستشاهدين”
وفي السياق نفسه تسأل “سالي” رفيقها “هاري” في المشهد الرئيس من الفيلم الأميركي “عندما التقى هاري بسالي” (When Harry Met Sally) عن رفضه لفكرة الصداقة بينهما، ليجيبها بدوره باستحالة هذا، لأن “الناحية الحميمية دائما ما تعيق الأمر، فحتى لو كنتِ ترفضين ذلك، فهو سيبقى حاضرا في ذهنه باستمرار”.
هنا تعلّق الكاتبة الأميركية، والمتخصصة في العلاقات الزوجية، “شيرلي جلاس” في كتابها “ليسوا مجرد أصدقاء” (Not Just Friends) بأن تحقق الانجذاب بين الجنسين يتناسب طرديا مع قدرتنا على التنفس والبقاء أحياء[1]. فهل، ووفقا لهذا الطرح وهذه الآراء، يمكن حقا أن يكون الجنسان مجرد أصدقاء؟
بين كوكبين
“تخيل أن الرجال من المريخ والنساء من الزُهرة، وفي أحد الأيام منذ زمن بعيد كان أهل المريخ ينظرون من خلال مناظيرهم المقربة واكتشفوا أهل الزُهرة. وبلمحة خاطفة أيقظ أهل الزُهرة مشاعر لم يكن لأهل المريخ بها عهد.. واخترعوا بسرعة سفن فضائية وطاروا للزُهرة.. ثم قرروا السفر للأرض.. واستيقظوا وكل واحد منهم يعاني من نوع معين من فقدان الذاكرة الاختياري، فنسوا أنهم من عوالم مختلفة.. ومنذ ذلك اليوم كان الرجال والنساء على خلاف”. هكذا يفتتح الكاتب، والطبيب النفسي الأميركي، “جون جراي” كتابه ذائع الصيت “الرجال من المريخ والنساء من الزُهرة”، كدليل إرشادي للجنسين عن كيفية التعامل مع بعضهما البعض. هذا الكتاب الذي يبين-وبصورة عكسية- استحالة قيام علاقة بين قطبين مختلفين، إلا عن طريق التجاذب العاطفي.
على هذا الافتراض يبني الباحث والكاتب “جيريمي نيكولسون” اعتراضه على إمكانية الصداقة بين الجنسين، لأن صداما مُنتظرا سوف يحدث بين تلك التوقعات المختلفة وهذه الرغبات المتفاوتة بينهما[2]، فمن خلال دراسة أعدّها الباحثان “ل. بيلسك” و”ديفيد باس”[3] على مجموعة عشوائية من الطلاب بجامعة “تكساس” تبيّن أن الكثير من مميزات الصداقة عند الجنسين هي عيوب عند الجنس الآخر والعكس.
فوفقا للدراسة، فإن الطرفين -الإناث والذكور- قد اتفقا على إيجابية ما تمنحه لهم الصداقة من الأنس والمشاركة وكذلك المعلومات عن الجنس الآخر، ولكنهم افترقوا في تبعات العلاقة السلبية والإيجابية الأخرى على حد سواء. ففي حين رأى الذكور أن صداقة الأنثى تمنحهم الاكتفاء العاطفي، رأت الفتيات أن هذا هو العيب الأول للعلاقة، إذ يتحول الأصدقاء مع الوقت إلى عاشقين أو راغبين فيما وراء ذلك. بينما أعربن عن ميزة الصداقة مع الذكور الظاهرة في تقديم الدعم النفسي، والمادي في بعض الأحيان، وهو ما عدّه عدد من الشباب تكلفة غير بسيطة لهذه العلاقة، خاصة إذا لم يُترجم هذا العطاء من قِبَلهم بعاطفة مماثلة من الفتيات.
وعلى مسافة قريبة، كانت دراسة “الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا” تقف بنتيجة مشابهة للتي أظهرها شباب “تكساس”، حيث أثبتت الدراسة القائمة على 308 شخص من سن 18 إلى سن 30 أن الإناث والذكور -على حد سواء- يخطئون في تفسير الإشارات الناتجة عن تعاملهما معا في حال الصداقة[4]. لذا لم يكن غريبا أن يستنتج “جيرمي نيكولسون” صعوبة استمرار هذه العلاقة بين الجنسين كما بدأت، وأنها -في أغلب الأحوال- ستفترق مع الصداقة الطبيعية (رجل ورجل/امرأة وامرأة) في مرحلة ما، لأن النظرة المختلفة لكلا الجنسين تجاه الآخر ستقود بالتبعية إلى فشل أفلاطونية هذه العلاقة مهما ادّعى الطرفان غير ذلك.
غالبا ما تصدُقك الأرقام، لا أحد يختلف على هذا ولا حتى البروفيسور “بيليسك ريشيك” وزملاؤه الذين أسقطوا هذه الحقيقة على الصداقة القائمة بين الجنسين، حيث أجرى الأساتذة بجامعة “ويسكونسن” الأميركية دراسة ميدانية على عينة من الطلبة شملت 88 صديقا وصديقة من الجنسين، قاموا فيها بعزل كل زوج من الأصدقاء (الشاب/الفتاة)، وأخذوا عليهم العهد ألا يفصحوا لبعضهما بنتيجة الاختبار بعد ذاك. ثم، ومن خلال الأسئلة التي وُجِّهَت للطرفين، استخلصت الدراسة في النهاية أن الرجال كانوا أكثر انجذابا لزميلاتهم، في الوقت الذي كانت فيه الإناث أكثر حيادا في عاطفتهم تجاه أصدقائهن. وفي حين رأى الشباب أن صديقاتهم يبادلنهم الشعور ذاته، استبعدت الفتيات أن يكون لدى رفاقهن أي ميول عاطفية تجاههن
بينما، وفي دراسة مقاربة، أعلنت صحيفة الديلي ميل (Daily Mail) البريطانية أن “ما قاله هاري لسالي كان صحيحا”، حيث أعلنت، في دراسة نشرتها، أن 47% من النساء و22% من الرجال في السن 18-23 يرون أن الانجذاب العاطفي في العلاقة هو أكبر أعبائها المعيقة لإتمامها، بينما رأى 25% من الذكور و38% من الإناث في العمر 27-50 أن هذا الأمر يؤثر بالسلب على علاقة الإنسان بشريكه ويستثير كثيرا من غيرته وحنقه[6]. الرأي الذي تتبناه أيضا “شيرلي جلاس” في كتابها -سالف الذكر- إذ ترى أن التقارب المفرط بين الجنسين يُفضي في أغلب الأحوال إلى تجاذبهما بشكل حميمي. ففي دراسة أعدّتها حول الخيانة الزوجية وجدت أن نسبة 82% من أصل 210 شريك (زوج/زوجة) تورّطوا في الخيانة مع صديق/صديقة بسبب التقارب غير المحدود بينهما بدافع الصداقة.
وتذكر “شيرلي” أن هذه النسبة لم تُعبّر بالكلية عن أزواج سيئين الطباع أو خائنين بالفطرة، ولكن -ووفقا لما استنتجته- فإنه من الطبيعي أن يتجاذب القطبان المختلفان إذا ما تقاربا معا إلى هذه الدرجة التي تسمح بها الصداقة[7]. هذا الاستنتاج لم تُرجّحه دراسة “شيرلي” وحدها، لأن “الأكاديمية البرازيلية للتضامن والأخوة بين الناس” أظهرت حسب “رنا حداد”، في استطلاع طال الآلاف حول العالم، أن 88% من حالات الصداقة بين الجنسين وصلت في مرحلة من المراحل إلى حدوث علاقة حميمية، مرة واحدة على أقل تقدير، بينما أعرب 90% من الذين فقدوا الثقة بالصداقة بين الرجل والمرأة أنهم توصلوا إلى هذه القناعة بعد خيانة الأزواج مع الأصدقاء المقربين من الطرفين
النتيجة التي لم يجد معها الدارسون حرجا من وصف هذه العلاقة بالقلعة المُبنية على الرمال، والمُهددة بالانهيار في أي وقت تتسرّب فيه العاطفة إليها، تماما كما قال “هاري” لـ”سالي” حين اعترضت على نظريته الرافضة للصداقة بينهما، معللة ذلك بأنها لا تفكر أبدا في أي علاقة حميمية تجاه أصدقائها من الرجال، ليجيبها هو بأن هذا لا يهم، فما دام أحدهم قد فكّر بهذا فقد دخلت العاطفة من الباب، وبمجرد حضورها فإنها تلغي ما تنكرينه من الأساس.
لأن الأمر أكبر من الأرقام
في أحد شوارع روسيا، يحكي المفكّر المصري “عبد الوهاب المسيري” عن التجمّع البشري الذي استوقفه، واضطره للسؤال عن سببه، ليعرف بعدها أن ما حسبه شجارا تلتف الناس حوله ليس إلا اندهاشا من فتاة ترتدي “الجينز” الأميركي في قلب السوفييت. ليعلّق على ذلك بأن ما وجّه توقّعه حينها إلى تفسير المشهد كان نموذجه الإدراكي المصري، أو تقاليده الاجتماعية التي تحلل هذه التجمعات على كونها نزاعات جماهيرية صاخبة، في حين أن النموذج الإدراكي للمواطن السوفييتي لم يكن يحتاج أكثر من فتاة ترتدي زيا أميركيا لتبتلعه الدهشة[9].
بمنطق قريب، يعلق الكاتب، ورئيس مركز المصريين للدراسات السياسية والقانونية، الدكتور “عادل عامر” على مبدأ الصداقة بين الجنسين، قائلا إن الأمر تحكمه كثيرا تصورات المجتمع وتراثه الفكري، “فبخلاف المستوى الفكري والتعليمي، فإن التربية الاجتماعية تلعب الدور الأكبر في تحديد شخصية الإنسان وأفقه المعرفي”[10]، أو نموذجه الإدراكي بتعبير المسيري، وهو ما ينطبق على فكرة الصداقة بين رجل وامرأة بطبيعة الحال.
فنظرا إلى أن التربية الاجتماعية في مجتمعاتنا الشرقية “تقوم بالأساس على العامل الديني.. فإن أي ظاهرة في المجتمع أو أي حالة ستكون خاضعة لمقاييس وقيم دينية بالدرجة الأولى، ثم لمقاييس القيم الإنسانية بالدرجة الثانية، ومن هنا يمكن القول إن الصداقة بين الرجل والمرأة في مجتمعاتنا هي من الحالات التي لا يمكن إيجاد مكان لها بين طيات الشريعة الدينية، ولن يكون لها أي أساس أو مبدأ تربوي”[11]. الأمر الذي عبّرت عنه العديد من التقارير الميدانية بين الشباب في مجتمعاتنا، حيث كانت أغلب الرؤى منصبة لترجيح ما أقرّته “شيرلي جلاس” سابقا أن مجرّد التقارب بين الجنسين كفيل بصنع المناخ اللازم لمرور العاطفة بينهما، حتى ولو كانت من أحد الأطراف دون الآخر. ففي أحد تلك التقارير بين الشباب الجامعي، رأى ستة أشخاص إمكانية هذه الصداقة بينما أعرب 21 آخرون عن رفضهم لها وصعوبة أن تستمر بلا عاطفة
وفي دراسة أعدها شابان مصريان على مواقع التواصل، شارك فيها قرابة 4000 شاب وفتاة من مختلف المراحل العمرية (33% من عمر 15-20، و67% فوق العشرين)، ذهبت النتائج التي عبّر عنها أكثر من 60% من الذكور إلى استحالة قيام علاقة صداقة خالية من المشاعر والرغبات العاطفية بين الجنسين بواقع 69% للذكور و72% للإناث، وفي حين صرّح 59% من الشباب بسابقة انجذاب عاطفي تجاه صديقاتهم، كانت 41% من الفتيات متفقات مع هذا الرأي[12].
فلو أن الصداقة الحقيقية لا تتجمّد في الشتاء، كما صرّح “أرسطو”، فكيف بصداقة يصيبها الشتاء بأمطار العاطفة وعاصفة الرغبات الفائقة لطبيعة الأصدقاء؟ ولو أننا تجاوزنا الأرقام والإحصائيات المتباينة، والتي هي أوضح من إغفالها، فكيف نتجاوز ثقافة المجتمع القائمة على تراثه الديني؟
ذلك التراث الذي لم يستوعب العلاقة بين الجنسين كما استوعبها بين أبناء الجنس الواحد، لأن العلاقة بين الجنسين، حسب الدكتور “عادل عامر”، وإن بدت بريئة وخالية من الأغراض العاطفية/الجنسية فإنه “لا يعتبر دليلا على صحتها وشرعيتها، فقد كان أهل الجاهلية قبل الإسلام يقولون إن الحب يطيب بالنظر ويفسد بالغمز”[13] فهو يرى -كما رأت الإحصاءات- أن النفس مجبولة على الميل للآخر، كما أن الأمر هنا لا يتعلق بتقاليد المجتمع بقدر ما هو متعلق بما قرره له الدين.
لننتقل ثانية إلى الفضاء
على مسرح عريض، يقف الدكتور “مارك جونجر”، بين تمثالين لرجل وامرأة، ماثلا أمام جمع حيّ من الرجال والنساء، ليشرح لهم الفارق الجوهري بين عقليهما ونظرتهما للعلاقات، فيذهب بهم إلى الرجل الذي يراه صندوقي الفكر ويفسّر لهم المرأة على أنها عقل من الشبكات. أي إن الرجل يضع كل شؤونه الحياتية في صناديق منعزلة لا يدخل إلى أحدها حتى يفرغ من الآخر، فإصلاح السيارة يعزله عن مشكلات عمله ومباراة كرة القدم تصمّ أذنيه عن الحديث، بينما تربط المرأة كل أمورها في شبكة عنكبوتية تنتقل فيها بين الكلام ورعاية الطفل ومشاهدة المسلسل دون اختلال.
الأمر الذي يضع آثاره على طبيعتهما، وينقلنا مرة أخرى إلى المريخ والزُهرة لاستكشاف الآفاق في تركيبة الجنسين. فحسب “جونجر” فإن المرأة تجنح دائما إلى العطاء، وإلا لما كانت أمًّا، بينما لا يعارض الرجل رغبته المحبّذة للأخذ والاستقبال، وهو الحال الذي يُفضي في النهاية إلى سقوط شبكة الأنثى في إحدى صناديق الشاب. لذا -ووفق الدكتور “مارك”- فإن فتاة لا تفطن إلى بحث الرجل عن شهوته فتعطيها له قبل الارتباط الموثّق هي فتاة خرقاء.
هكذا يخبر الدكتور “جونجر” الفتيات، فتلك هي القاعدة الأولى في التعامل مع أقرانهم من الذكور، وهو الأمر الذي لا تشفع له حتى الصداقة البريئة، لأنه، ووفق دراسة لمجلة “سَينتِفِك أمَرِيكان” (Scientific American)، فإن معظم الرجال ينجذبون بداية إلى شكل المرأة، حتى وإن كانوا يعتبرونها مجرد صديقة، ثم يشعرون أنها تبادلهم الشعور نفسه، أي أنهم يحللون اهتمامها على أنه إعجاب متبادل، فيتلاشى مفهوم الصداقة تلقائيا لكونه مبنيا على الانجذاب والإعجاب، وليس على مضمون الشخص الآخر
وبِناء على اختلافات “جونجور” وتحليله لعقلية الجنسين في العلاقة، تخبرنا الدكتورة “سناء الثقفي”[15]، أستاذ مساعد تفسير وعلوم قرآن بكلية التربية للبنات بجدة، أن العلاقة بين الجنسين من المنظور الديني -ولأسباب قريبة من التحليلات السابقة-، قائمة بالأساس على التضييق وليس السعة، أي إن ثمة حدودا تؤطر هذا التعامل وتقنّنه من جهة التشريع الإلهي. فالأمر وإن بدا قديما في حكمه فهو حديث في الاحتياج إلى طرحه[16]
وقياسا على هذا، وما سبقه في رحلة المريخ والزُهرة وعروض “ستيف هارفي” للألعاب النارية، نعود مرة أخرى إلى السؤال الرئيس في كل الدراسات والأطروحات الدائرة حول الأمر، لنسأل بحق: هل يمكن للرجال والنساء أن يكونوا مجرّد أصدقاء؟
الجزيرة