وقعت على منشور وجدته وقد طوف وسائط التواصل الاجتماعي واحتشد حوله بعض السوادنة، وقد طفقوا يستثيرون قطاعات الشعب المختلفة ويستحثونها على التضامن والالتحاق وراء دعوى لإجبار الحكومة على اتخاذ خطوات جذرية وحاسمة لاقتلاع الوجود السوري في السودان، أو على الأقل تحجيمه وتصفيده بالأصفاد.
والوجود السوري هنا المراد به السوريون الذين لاذوا بالسودان في أعقاب الحرب الأاهلية التي اجتاحت سوريا بعد أن أرادت بعض جماعاتها السياسية الالتحاق بكرنفال الربيع العربي قبل سنوات، والذي استحال إلى مأساة كارثية دمرت بلاد الشام وأحالت نصف شعبها إلى لاجئين.
وقد اتخذ هؤلاء الناشطون من وقائع وتداعيات الحادثة التي تورط فيها أحد السوريين مؤخراً بإطلاق النار من مسدس مرخص عقب مشادة واشتباك مع آخرين، اتخذوا منها سلّماً ومطية للانطلاق إلى أغراضهم الملتحفة برداء الوطنية. وذلك بعد أن نددوا بالقضاء وطالبوه بمراجعة الحكم الصادر بحق السوري الذي أطلق النار ورفيقين له وإصدار أحكام جديدة ترضي أصحاب المنشور والمتشيعين من حولهم وتشفي صدورهم. ثم زاد القوم فطالبوا الدولة باعتماد نظام الكفيل المتبع في المملكة السعودية ودول الخليج في التعامل مع أحبابنا المغضوب عليهم.
ثم وبعد الفراغ من بسط الشروط الملزمة اختتم المنشور خطابه الحازم بعبارة (ارفع رأسك أنت سوداني). وقد نظرت ودققت لعلي أرى عبارة أخرى تقول: (اخفض رأسك فأنت سوري)، ولكني لم أرها، إذ نسي القوم أو فات عليهم إضافتها!
كم هو غريب أن يتخذ البعض من حادثة شغب اعتيادية تشهد مدن السودان ونجوعه المئات منها كل يوم تشرق فيه الشمس مسوغا لاستصدار أاحكام كلية قطعية على كامل الإثنية التي ينتسب إليها شخص واحد أو شخصان خالفا القانون أثناء مشاجرة عابرة، فيتدافعون إلى إظهار الضيق بوجود تلك الجماعة وذلك على أساس عرقي محض. سبحان الله. ما هذه المغالاة؟ ما هذا التطرف؟!
حمدت الله حمداً طيباً أن الجميع لم يَنْسَقْ وراء تلك الدعوى، ومن الحق الذي لا محيص من الصدع به فإن روح القطيع كثيرا ما تسود في مجتمعات السوادنة، سواء فوق أديم الأرض أو في سموات الأسافير، فيفتتنون بكل صيحة تتزيّا زي الوطنية السودانية، فيمشون في مناكبها ويهرعون متدافعين خلف حاديها!
ولهذا فقد سررت إذ قرأت من كتب في مورد التعليق: (هذا منشور جاحد ومخجل وقبيح)، فاستحسنت عبارته رغم ما اكتسته من حدة وقسوة.
ترى هل يعرف القوم تعداد السوادنة المقيمين بالملايين في البلدان العربية والإفريقية المجاورة؟ بل كيف لم يتذكرون أن السوادنة ظلوا يدخلون مدن سوريا نفسها منذ ستينيات القرن الماضي دون حاجة إلى تأشيرات دخول، لأن الدولة هناك لم تفرضها عليهم. وكان المئات ثم الآلاف في العقود الأخيرة يدرسون ويتزوجون ويعملون في المجالات المختلفة، بما في ذلك مزارع الخضر والفاكهة في الريف السوري، وأهل البلاد يقاسمونهم زادهم وأرزاقهم على قلتها. كما كان ولا يزال من السوادنة من يخالف قوانين الدولة السورية ونظمها، لا يلوون على شيء، ويتسربون من داخل سوريا، بوسائل غير قانونية، إلى الدول الأخرى مثل تركيا ولبنان.
السوريون جاءوا إلى السودان لاجئين مستجيرين، وحريٌّ بنا أن نوطئ لهم الأكناف، لو صح ما نزعمه عن كرم السوادنة ونبل أخلاقهم ومروءتهم. وليس من المروءة وكرم الأخلاق أن يلوذ بك مستجير فتتلقاه بروح الاستعلاء و(العنطظة) وتفرض عليه وتلزمه بنظام الكفيل الذي أذل أعناق الرجال وحنى قاماتهم في بلدان الخليج العربي والسعودية.
السوريون، وإن جاءوا مستجيرين فقد جاءوا بأموالهم وخبراتهم وحضارتهم وعلمهم ودينهم. وثمار كدهم وعرقهم وإنجازاتهم في مدن السودان تحدث عن نفسها، فهم أهل علم وعمل وهم من أكثر الشعوب إنتاجاً وإبداعا وصبرا على مكاره الدهر.
ثم خذ عني، أعزك الله، هذه الرواية بعث بها إليّ أحد الأصدقاء من أهالي مونتري بولاية كاليفورنيا: (رأيت إحدى السيدات وهي معنا بكاليفورنيا تبكي عندما سمعت بقرار الرئيس حسني مبارك التنحي عن الحكم في مصر، فسألتها: أتبكين على دكتاتور؟! قالت السيدة وكانت في الأصل مقيمة في مصر ثم انتقلت إلى أمريكا في إطار برنامج اللوتري: والله الزول ده أصلو ما قصّر معانا. فتح لينا بلده وعشنا فيها نقاسمهم اللقمة لحدي ما جينا أمريكا). وأضاف صاحبي: (لم أستسغ ما قالته ولكنني أكبرت وفاءها وعدم نكرانها للجميل).
مرحباً بالإخوة السوريين في السودان. حللتم أهلاً ونزلتم سهلاً.
بقلم
مصطفي عبدالعزيز البطل
السوداني