لم يفطن حسن حسين لمغزى طلب جده لأمه الذي ظل يكرره بين الحين والآخر بأن يصحبه إلى زيارة سوق دلالة الأثاثات المنزلية المستعملة، ظل حسن يرافق جده لعدد من الدلالات التي تباع فيها الأثاثات باستمرار حتى كاد الأمر يتحول إلى عادة من فرط ممارسته المستمرة لها لأكثر من سبعة أعوام، كان خلالها يتصرف بطريقة واحدة لم يغيرها مطلقا.
اعتاد الجلوس بعيدا عن السوق ليتمكن من مراقبة الذين يجلبون أثاثهم للتخلص منه، مؤخرا بدأ حسن يحرص على رصد المشاعر المتباينة على وجه جده، وهو يسترق النظر إلى وجوه من يدخلون السوق محملين بأثاث منازلهم لغرض بيعه.
تاريخ شخصي
طلب الجد المهدي أحمد من حفيده بأن يصحبه للدلالة ليس ترفا زمنيا بحسب وصفه، وكذلك ليس هواية كما ينظر لها حفيده، وإنما يرجع الأمر برمته إلى أن الجد اكتشف، وهو في سن متأخرة من عمره أن من يبيعون أثاثاتهم المنزلية بدوافع، أهمها حاجتهم الماسة وظروفهم الاقتصادية المتدهورة يتخلصون جراء هذا الظرف من جزء عزيز من حياتهم التي مضت، وفي الوقت الذي يجب أن يحتفظوا فيه بهذا التاريخ المهم تجبرهم ظروفهم المعيشية على بيعه بأبخس الأثمان في أسواق الدلالات المختلفة لأناس لا يضع أحدهم أهمية لتاريخه، ويعتقدون أنه مجرد أثاث انتهت صلاحيته بالنسبة لصاحبه، فأراد التخلص منه ببيعه بأقل الأسعار. وأضاف في حديثه: كثير من الأشخاص الذين يبيعون أغراضهم القديمة يفعلون هذا بدافع الحاجة والعوز، ولو تمكنوا من حل قضاياهم المعيشية والحياتية الأخرى ولو جزئيا لما أقدموا على بيع أغراضهم التي تمثل تاريخهم الشخصي، وهي تصور لهم أروع وأنضر أيام حياتهم بهاء وجمال.
ظروف قاهرة
وأوضح المهدي أحمد أن فكرته بالتركيز على زيارة الدلالة كانت نتاجا لمواقف مرت به، تمثلت في اكتشافه أن معظم من يبيعون متعلقاتهم الشخصية تظهر عليهم علامات حزن عميق لحظة فقدانهم لها بالبيع، لأن ارتباطهم النفسي بها يزيد من قيمتها المعنوية في أنفسهم، فتصير جزءا من تكوين حياتهم، وأكد المهدي الذي أجبرته الظروف المعيشية قبل خمسة أعوام تقريبا على بيع أشياء مهمة كان يمتلكها منذ سنوات شبابه، ولكنه عندما مر بظرف اقتصادي حرج لم يكن أمامه غير بيعها، ولهذا صار ينظر للدلالة باعتبارها مستودعا لذكريات وتاريخ الفقراء الذين لم يجدوا ما يصدون به نوائب الدهر غير التخلص من تاريخهم وأيامهم الجميلة.
هواة اقتناء القديم
لو كان المهدي يتأسى لحال الذين يبيعون أشياء عزيزة على أنفسهم، ولم يجد طريقة لمواساتهم في فقدهم المهم غير رصد مشاعرهم المتباينة لحظة تخليهم منها، فإن (خالد) تتمثل هوايته في شراء الأثاثات المستعملة لأنه وعلى حد وصفه يقرأ فيها تاريخ أناس لا يعرفهم ولم يتكرر لقاؤه بهم غير مرة واحدة لحظة الشراء، ورغم يقينه بعدم معرفته بتفاصيل حياتهم، إلا أنه من خلال إمعان النظر فيها والتدقيق في ثناياها يكتشف ولو قليلا من قيمتها المهمة ليس له هو الذي اشتراها ولكن لصاحبها الذي كان يمتلكها قبله فيزداد حرصه عليها وتمسكه بها.
ذات قيمة
من شدة إقباله على اقتناء الأشياء المستعملة حول خالد منزل أسرته إلى مخزن كبير لأنه لم يمر أسبوع دون أن يجلب شيئا من الدلالة، وهو يمارس هوايته باستمرار دون أن يكترث لصرخات أفراد أسرته بأن يكف عن تحويل المنزل لمخزن بأشياء يرونها ليست ذات قيمة، ويراها هو تاريخا مهما يجب الاحتفاظ به.
اليوم التالي.