فى شهر مايو الماضي، وبالتحديد فى أمسية الثالث عشر منه، كان الرئيس يتحدث بصراحة رئاسية فوق المعدل أمام الإعلاميين السودانيين العاملين بالخارج. وقتها، قال لهم (كنا حيران للترابى يقول لينا أمشوا يمين يمين، شمال شمال..طلعوا القرار دا بنطلعوا، ألغوه بنلغي.. ولكن الآن ولى عهد التمكين والشرعية الثورية وأصبحنا فى عهد دولة القانون و نحن على أتم الاستعداد لتسليم السلطة لمن يختاره الشعب فى الإنتخابات المقبلة).
وما ذهب إليه الرئيس فى تلك الأمسية لم يكن منظوراً لدى الكثير من المراقبين ممن علقت فى أذهانهم صورة الإنقاذ حين أتت في العام 1989م إذ كانت تمثل الشمولية فى أعلى صورها، وجاءت ببرامج ظن البعض أنها ستعجل برحيلها قبل أن تجني ثمار ما زرعت، ولكن عقدين من الزمان في سدة الحكم تمرحلت فيها الخطط والمساحات بينها وبين القوى السياسية قبل أن تتجه إلى إشراكها في السلطة ومشاورتها في شأن البلاد.
وتميزت سنواتها الأولى باعتماد حزب واحد وبالقبض على مفاصل السلطة، وضرب الخصوم، والإنغلاق على الذات والشمولية وفرض المشروع الحضاري.. ولكن ما بين يونيو 1989م ويونيو 2009م تبدل الكثير، وتنقلت فيها من مربع إلى آخر، وحدث تحول وتبدل واضح في تلك المسيرة.
والوصول إلى التعددية والإنفتاح واجه مخاضاً عسيراً وخلافاً حاداً داخل أروقة الحزب الحاكم، ويوثق بعض قادة الإنقلاب لتلك الفترات كل حسب وجهة نظره، فالبعض كان في جناح الإنفتاح والآخر مع الشمولية، ويقول العميد (م) محمد الأمين خليفة في حوار سابق أجرى معه بمناسبة العيد (19) للإنقاذ إنها تدرجت من الشرعية الثورية الى شرعية دستورية، ويؤكد ان التحول كان يجب أن يتم قبل انتخابات 1996م، ولكنه يذكر صراحة إن بعض الشموليين داخل الانقاذ عطلوا البرنامج وأرجأوا الإنفتاح من 1993م الى 1996م، لكن خليفة ذكر في ذلك الحوار حقيقة مهمة وهي أن الإنفتاح كان مخططاً له قبل قيام الإنقاذ لأنها جاءت ببرنامج معد. ويذكر أنهم حاولوا التغيير مرارا ولكنهم كانوا ضعافا أمام المستمسكين بالسلطة. ويقول خليفة إن هناك انتخابات أجريت على مستوى المحليات عام 1993م ثم على مستوى المحافظات في العام 1994م ثم في الولايات 1995م، ثم خلع الحكام العسكريون أزياءهم العسكرية، حتى جاءت إنتخابات عامة عام 1996م، وقانون التعددية السياسية أو التوالي.
ويؤكد عدد من الخبراء على هذه المحطات التي تعتبر مهمة في تاريخ تحول الإنقاذ ويقولون إنها منذ البداية ما كانت تريد ان تكون صورتها إحتكارا لاتخاذ القرار، وأنها منذ البداية عقدت مؤتمرات فيها مشاركة من الآخرين بصورة من الصور لاتخاذ القرار، وهنالك من رفض أن يشارك في المؤتمر لكنه كان مفتوحا.
ويقول د. حسن الساعوري -استاذ العلوم السياسية- إن هذا مؤشر على أنهم كانوا يريدون مشاركة الآخرين، وكانوا يقومون بالمبادرة والتنظيم والترتيب، والمقصود ليس المشاركة فقط وإنما المشاركة التي تعطي النظام شرعية أكثر من شرعية الإنقلاب، ويستطرد أن الإنقاذ حرصت على البحث عن هذه الشرعية بشتى الوسائل، فالاولى كانت المؤتمرات المفتوحة من نوعين: شعبية كالدوائر الجغرافية وتصعيد المحليات إلى المحافظات إلى الولايات إلى العاصمة، وجاءت بنوع آخر من المؤتمرات القطاعية، وكلها كانت محاولات لإضفاء الشرعية على النظام، ومع هذه المحاولات كانت هنالك ردود أفعال محلية تمثلت في إنكار المحاولة وهنالك من شارك وركب قطار الإنقاذ، وكانت هناك ردود أفعال إقليمية.. ويعتبر د. الساعوري أن الإنقاذ من الاحزاب المتعددة، والإقليمية بتصعيد العمليات العسكرية في الجنوب وعدم التوصل لإتفاق، ويأتي بعد ذلك (والحديث للساعوري) رد الفعل الدولي بالتدخل لمنع التوقيع على اتفاق لأن وجهة الإنقاذ أصبحت واضحة، فبينما رحب بها البعض اصبحت هاجسا إقليميا ودوليا، وكان قرارهم هو إسقاط النظام. وكانت فترة إعلان الجهاد المكثف وانتهت في 96، 1997م وكانت المفارقة عدم القدرة على إسقاط النظام رغم الدعم، ثم إن استخراج البترول وتصديره وتسويقه شكل خطراً كبيراً، فتدخلت أوروبا للوصول لاتفاق قبل أن ينتهي التمرد، وجاءت ديمقراطية التوالي مع البترول، وبعدها حدث انفتاح ديمقراطي بعد عمل مشاريع. ولدى الساعوري فإن هذه هي الأسباب التي دعت لنيفاشا، ويضيف أن قوة التمرد بعد عمل شراكة في السلطة أقصت التجمع، وهذا ما جعل عناصر في الحركة تعرقل تجانس الشريكين، ويؤكد الساعوري ان الإنفتاح كان استراتيجية للإنقاذ منذ بدايتها، وكانت الفكرة أن تأتي بانقلاب عسكري وترسخ نظاماً جديداً ثم تطرح الديمقراطية لتكون نظاماً مقبولاً، ولكنه ينبه إلى ان المشاكل واجهتها في منتصف الطريق.
ولكن على الطرف الآخر يرى البعض ان الإنقاذ ظلت شمولية طوال الفترة ما قبل نيفاشا، ثم عملت بعد ذلك على اعادة قراءاتها.
ورغم ان د. اسامة زين العابدين -أستاذ العلوم السياسية بجامعة الزعيم الأزهري- يعتقد ان الإنفتاح كان أمراً مرتباً له، إلا أنه يصف الفترة ما قبل 2005م بأنها تعتبر فترة صماء فرضت فيها الإنقاذ أسلوبها الخاص، ورغم وجود تحولات قبل ذلك لكنه يرى ان التحولات الحقيقية بعد 2005م، ويضيف د. أسامة ان الإنقاذ بعد نيفاشا تنازلت عن إطارها السياسي الدستوري القديم ومشروعها الحضاري وتحولت إلى إطار سياسي ودستوري جديد هو دستور 2005م واتفاق نيفاشا، واتاح الإطار الجديد فرصة للتنظيمات المختلفة بما فيها الحركة الشعبية والقوى الأخرى بأن يكونوا جزءاً من الحكومة الجديدة، ويؤكد انها نتيجة طبيعية لنهجها التطوري، بينما تعتبرها بعض التنظيمات الأخرى خطوة تفكيكة للإنقاذ.
ويعتبر د. أسامة أن الحكم الفيدرالي أكبر تحول ديمقراطي، وأن نيفاشا هي من اكبر التحولات لانها لأول مرة اوقفت الحرب؟ بين شمال السودان وجنوبه بشكل نهائي، ويضيف أن إفرازات الحركات المسلحة والقبلية والجهوية برزت لظروف موضوعية لكنها لن تستمر كثيرا وسيقل دورها بعد ان تحدث تسويات سياسية وتجد الأطراف حقوقها الكاملة في السلطة.
ويعود د. اسامة إلى ذكر أن الانفتاح أدى إلى انقسام الحركة الإسلامية لانه كان مرتبا له بعد عشر سنوات، وكان البعض يرى أن يتم بعد عشر سنوات أخرى لأن الإنجازات تحتاج لعشر سنوات، ويقول إنها نظرية أن أي نظام شمولي عسكري يتحول بعد ذلك إلى مرحلة الشرعية الدستورية.
والآن الإنقاذ في عامها العشرين تقترب من موعد الإيفاء بوعدها في التحول الديمقراطي فهل ستستمر لمنح فرصة لآخرين أم لتقنين وضعها؟ د. الساعوري يقول بإحتمالية الأمرين معا، محاولة لتقنين استمرار الإنقاذ وفي نفس الوقت فتح باب الديمقراطية للآخرين، وهي الآن تتحدث عن إنجازاتها، وتساءل كيف أصبح السودان منذ «89» حتى الآن؟، ويعضده د. أسامة زين العابدين بالقول إن الإنقاذ تريد الفوز مثل أي تنظيم سياسي آخر، ويقول انها أعلنت أنها توافق تماما بنتائج الإنتخابات، وتبدو الأكثر استعدادا لها، ويقول إنها أكثر اتجاهاً لها، ولو فازت في ظل رقابة دولية تصبح شرعية وتقنن وضعها وتستمر لأربع سنوات أخرى.
وكيفما كان الأمر، فإن قطار الإنقاذ عبر محطات كثيرة وقطع خطوات كبيرة تجاه الإنفتاح على الآخرين وإتاحة الفرصة للمشاركة الفاعلة في الشأن السياسي اليومي بالسودان، لكن يبقى الإستحقاق الإنتخابي وتداول السلطة هو آخر وأهم الإختبارات في هذا السياق.. فهل تنجح..!؟
عوض جاد السيد :الراي العام