لا داعي للقلق.. هاتفك الذكي ليس مسؤولا عن السرطان

“الهواتف تسبب السرطان”، مقولة عادة ما تستخدم لتحذيرنا من استخدام الهواتف بكثرة، إلا أن هذا التصور لا يقتصر على المقولات الشعبية المتداولة، بل هناك اعتقاد طبي تقني ما زال سائدا يتعلق بالهواتف الذكية ومرض السرطان، فما حقيقة هذا الاعتقاد؟

إشعاعات الهواتف
تعتمد الهواتف، الخلوية منها والذكية، على أبراج لبثّ الإشارة وعلى مُستقبلات لتلك الإشارة موجودة داخل الهاتف. المقصود بالإشارة هو الموجات الكهرومغناطيسية التي تنتقل بين الطرفين، وهي موجات الراديو التي تُستخدم في مجال الاتصالات ونقل موجات المذياع والمحطّات التلفزيونية أيضا، وهذا يعني أن جسم الإنسان يتعرّض لها منذ فترات طويلة جدا لم تبدأ فقط منذ تسعينيات القرن الماضي مع بدء استخدام الهواتف الخلوية.

موجات الراديو تلك تتميّز بكونها ضعيفة جدا من ناحية الطاقة، فهي غير قادرة على تأيين ذرّة أي مادة، أي إكسابها شحنة سالبة أو موجبة ينتج عنها تفاعل كيماوي قد يؤدي إلى تغيير شكل المادّة، وبالتالي لا تؤثّر من الناحية العلمية على جسم الإنسان، عكس إشعاعات أقوى قادرة على تأيين الذرات مثل الصادرة من الأشعة فوق البنفسجية، أو تلك الصادرة من الأشعّة السينية، “إكس راي” (X-Ray)، القادرة على التأثير مُباشرة على الحمض النووي للإنسان، أي أن التعرّض لهذا النوع من الإشعاعات لفترة طويلة قد يؤدي لمشاكل صحيّة(1).

بالعودة إلى الموجات الصادرة من الهواتف الذكية، موجات الراديو، فإن تأثيرها الوحيد يكمن في إمكانية رفع درجة حرارة نسيج الخليّة، تماما مثل موجات المايكروويف (Microwave) التي تُستخدم في تسخين الطعام. لكنها في موجات الراديو بطاقة أقل، كما أن ذلك التأثير رُصد بشكل واسع داخل المُختبرات، أي عندما يُعزل النسيج ضمن طبق خاص به ليمتصّ بذلك الموجات المُختلفة بسهولة أكبر(2).

أما امتصاص جسم الإنسان لتلك الموجات فيختلف بناء على بعض العوامل مثل المسافة بين الهاتف والمحطّة المسؤولة عن بثّ الإشارة، فكُلّما كانت أبعد، كُلّما احتاج الهاتف لبثّ إشعاعاته بطاقة أكبر. كما أن القوّة تختلف مع اختلاف الأجهزة، فالهواتف الذكية الحديثة بطاقات أقل من القديمة، وهذا شيء تتحكّم به هيئة الاتصالات الفيدرلية “إف تي سي” (FTC)، التي لا يُمكن بيع هاتف ذكي من دون موافقتها.

الهواتف الذكية والسرطان في 2018
مع اقتراب الهواتف الخلوية من إتمام عقدها الثالث في الأسواق، إلا أن الدراسات ما زالت تجري حتى الآن في محاولة للعثور على رابط مُباشر بين الإصابة بمرض السرطان واستخدام الهواتف بأنواعها المُختلفة، دراسات كان آخرها تلك الصادرة من البرنامج الوطني لدراسة السموم (National Toxicology Program) في الولايات المُتحدة الأميركية، والتي انتشرت نتائجها في (فبراير/شباط) 2018، لتكون بذلك أحدث ما توصّل له العلم على مدار السنوات الماضية(3).

اعتمد الباحثون في الدراسة على الفئران والجرذان، وهذا من خلال تعريض أجسادها لموجات الراديو بالطاقة القصوى لمدة تسع ساعات يوميا، لعامين مُتتالين تبدأ من مرحلة ما قبل الولادة إلى أن يبلغ الحيوان عامه الثاني تقريبا. وبعد انتهاء الأبحاث، أشارت الدراسة لوجود إصابات بأورام خبيثة في منطقة القلب الخاصّة بذكور الجرذان. لكن هذا لا يعني أبدا وجود رابط بين موجات الراديو والسرطان لأن إناث الجرذان لم تُعان من هذا الأمر، كما أن ذكور وإناث الفئران كانت سليمة بنسبة 100٪.

وتجدر الإشارة إلى أن بلوغ الفأر أو الجرذ عامه الثاني، يُعادل بلوغ إنسان الـ 70 من عمره، وهذا يعني أن علامات التقدّم في العمر وتراجع قوّة الجسم ومناعته مأخوذة في الحُسبان. وبشكل عام، فإن المُبالغة الموجودة في الدراسة سواء من ناحية قوّة الموجات، ومن ناحية الفترة أيضا، أمر أكّد العُلماء أنه غير موجود في الحالات الطبيعية في الحياة العملية، وبالتالي، فإن تلك الدراسة انتهت بالتشديد على أن استخدام الهاتف الذكي لا يؤدي بشكل قاطع للإصابة بأورام خبيثة.

أبحاث على مستوى العالم
تبقى الدراسة السابقة محدودة لكونها تدرس مجموعة مُحدّدة من الحيوانات ضمن بيئة مُحدّدة لا تخرج منها، ولا تتعرّض فيها لعوامل أُخرى كتداخل الموجات المُختلفة، أو تغيّر حالات الطقس، أو الإصابة بفيروسات وأمراض قد يكون لها دور بشكل أو بآخر في إصابة الخلايا السليمة وتحويلها لخبيثة. ومن أجل ذلك، يُمكن اللجوء لدراسات على نطاق أوسع وتعتمد على الإنسان كحقل لتجاربها.

بدأت الدنمارك بدراسة هذا الأمر منذ عام 1982، في دراسة استمرّت حتى 1995 شملت 400 ألف شخص تقريبا من أصحاب الهواتف الخلوية، لمقارنة حالتهم الصحيّة مع الأشخاص الذين لم يمتلكوا هاتفا نقّالا في ذلك الوقت. وبعد الانتهاء من المرحلة الأولى، تم تمديد الدراسة حتى عام 2007، ليجد الباحثون أنه لا علاقة تربط استخدام الهواتف بالسرطان لا من قريب ولا من بعيد(4).

التحقت جامعة “أوكسفورد” (Oxford) بالركب، وبدأت دراساتها منذ فترة طويلة جدا في المملكة المُتحدة عبر دراسة المليون امرأة (Million Women Study)، شاركت فيها أكثر من 800 ألف أُنثى في المملكة المُتحدة للكشف عن السرطان ومحاولة إيجاد روابط مُباشرة مع مُسبّباته، إلا أنها أيضا أكّدت النتيجة ذاتها، لا روابط بين الخلايا السرطانية واستخدام الهواتف النقّالة(5).

أخيرا، على مستوى أشهر الأبحاث، خلصت دراسة “إنترفون” (Interphone)، التي شاركت فيها 13 دولة وأجرت أبحاثها على أكثر من 5000، سواء من المُصابين بأورام في المُخ أو السليمين، إلى أن اسخدام الهاتف الذكي لأكثر من عشر سنوات لم يُظهر أية إشارات أو تأثيرات على خلايا دماغ الإنسان، لتؤكد جميع الدراسات، القديمة والحديثة، على نفس الفكرة بأن الهواتف وإشعاعاتها بريئة من الاتهامات التي رافقتها طوال هذه الفترة(6).

لماذا تستمر الأبحاث؟
قائمة الأبحاث طويلة جدا، وجميعها لم تُثبت حتى الآن أن للهواتف صلة مُباشرة بالأورام الخبيثة، إلا أن نفس تلك الأبحاث فيها قصور، ولهذا السبب لا يُمكن أخذها والتسليم بها، فالعلم لا يقتنع إلا بالنتائج المُثبتة التي لا يُمكن للصدفة أن تلعب دورا فيها. لكن وبالنظر إلى الأبحاث السابقة، فإن جزءا منها اعتمد على تصريحات المُختَبِرين فقط، أي على ذاكرتهم في عادات استخدامهم للهواتف الذكية في السابق، دون وجود إثبات عملي، أو مُتابعة مخبرية تؤكّد صحّة هذا الكلام.

الأمر نفسه ينطبق على الدراسات التي جرت بشكل حيّ على مجموعة من الأفراد، فهي جرت لفترة من الزمن دون العثور على أورام خبيثة بسبب استخدام الهاتف خلال تلك الفترة. لكن الخلايا عندما تتعرّض لأي خلل في البناء فأعراضه لا تظهر إلا بعد عقود من الزمن، أي أن الخليّة قد تتلف أو تُصاب بخلل دون أن يتحول إلى ورم، حميد أو خبيث، خلال الدراسة. لكنه قد يتحوّل في ما بعد، وبالتالي تحتاج جميع الجهات لمُتابعة صحّة المُشاركين منذ البدء وحتى نهاية حياتهم لتقديم نتائج أكثر دقّة، وهذا يُفسّر بشكل أو بآخر السبب وراء استمرار الجهود في نفس المجال على الرغم من حتمية -حسب الدراسات- عدم تأثير الهواتف الذكية سلبيا على صحّة الإنسان.

وللأمانة العلمية، لم تكن جميع النتائج إيجابية طوال الوقت، فالجسم أظهر ردّات فعل غريبة في بعض الأحيان، ليست خبيثة، إلا أنها تستحق الدراسة. في بحث صغير أجراه المعهد الوطني لتعاطي المُخدّرات، تبيّن أن استخدام الهاتف لمدة 50 دقيقة متواصلة ووضعه جانب الأذن يؤدي إلى ارتفاع نسبة “الغلكوز” (Glucose) في أغشية الدماغ، وهذا بالمُقارنة مع الأغشية الموجودة على مقربة من الأذن الثانية التي لم يوضع الهاتف على مقربة منها. وعلى الرغم من عدم وجود آثار ضارة لـ “الغلكوز” المسؤول عن تغذية الخلايا بشكل عام، إلا أنه يُظهر الدماغ في تلك الجهة يعمل بصورة أكبر من الجهة المُقابلة(7).

استمرار الأبحاث على مدار العقود السابقة يعني أنها سوف تستمر كذلك خلال العقود المُقبلة. وهنا يجب الوقوف عند ماهية تلك الأبحاث، فالرابط بين السرطان والهاتف ليس الشيء الوحيد الذي يبحث العُلماء فيه، فأمراض أُخرى مثل إدمان استخدام الهواتف، النموموفوبيا (Nomophobia)، أي الخوف من عدم إمكانية استخدام الهاتف لخروجه من نطاق الشبكة(8)، ظهرت وتُدرس على نطاق واسع، دون نسيان دراسات أُخرى تربط بين تأخر نمو عقل الأطفال لكثرة استخدام الهواتف(9)(10)، وهذه أمراض لا تحتاج لعقود من الزمن حتى تظهر نتائجها، فهي موجودة وملموسة أيضا.

المصدر الجزيرة

Exit mobile version