من أمِنَ العقاب!
– 1 – أدرتُ أمس، حواراً مع أحد تجَّار العملة، مُستفسراً عن أوضاع الدولار في السوق.
وجدتُّ الرَّجل في حالة استياءٍ وضيق. قال إن السوق في حالة سكون، لا بيع ولا شراء، باستثناء مُعاملات محدودة في مبالغ صغيرة.
مُحدِّثي ردَّ ذلك للحملات المُكثَّفة التي قامت بها الجهات الأمنية في أوساط تجار العملة، فألقت القبض على البعض، وهرب آخرون إما خارج البلاد أو لاذوا بالمخابئ.
– 2 –
مغتربٌ في دولة خليجية، أخبرني أن تُجَّار العملة الذين كانوا يتعاملون معهم في تحويل مبالغ إلى السودان، امتنعوا عن استلام أيِّ تحويلات، بسبب تخوُّفهم من الوقوع في قبضة السلطات في الدولة المُستضيفة، بعد تسرُّب معلوماتٍ بأن الحكومة السودانية اتَّفقت مع تلك الدول على مُطاردة تجار العملة من السودانيين، وفقاً للقوائم التي تأتي من الخرطوم، والتي عليها اتهامات الإرهاب وتخريب الاقتصاد.
– 3 –
رجال أعمال تحدَّثوا إلي، عن بنك كبير يعمل على الالتفاف على قرارات بنك السودان الأخيرة، يعتمد تعاملاتٍ بالأسعار الرسمية، وأخرى بعيدة عن الضوء، تُكمَلُ فيها مبالغُ الصفقة بأسعار السوق الأسود!
– 4 –
نعم، الخطواتُ التي اتَّخذتها الحكومة ضد تُجَّار العملة في الداخل والخارج وحدُّها من تدفق السيولة، وحديثُها عن الترتيب لسحب فئة الخمسين جنيهاً من السوق، كُلُّ ذلك أسهم في استقرار سعر الدولار وانحسار السوق الأسود للعملات.
بالتأكيد هذا ليس هو العلاج، فالأزمات الاقتصادية لا تُعالج بالإجراءات الأمنية والقرارات الإدارية.
لكنَّك لا تستطيع أن تُعالج مريضاً وهو في حالة نزف، ما لم تُوقِف النزف ابتداءً.
الإجراءات الأمنية والإدارية، تُسهم في إيقاف نزف العملة الوطنية، التي كانت تفقد جزءاً من قيمتها وكرامتها مُستهلَّ كُلِّ صباح.
هي ليست علاجاً، ولكن لا ينجح علاج إلا بها.
– 5 –
أتعجَّب لاعتراض البعض على الخطوات الجادَّة، التي تتَّخذها السلطات ضد تُجَّار العملة.
صحيح أن الإجراءات الأمنية والإدارية لا تُحقَّق العلاج للأزمة الاقتصادية؛ لكنَّها ضروريَّة لإنجاح أيِّ معالجات اقتصادية مُتزامنة أو قادمة.
لن تستطيع الدولة أن تُحدِثَ قدراً من الاستقرار، وتحدُّ من تدهور الوضع الصحي للعملة الوطنية، وتُجَّار العملة يتحكَّمون في الأسواق ويمتلكون زمام المبادرة، آمنين على أنفسهم وأموالهم وهم يُمارسون هذا النشاط التدميري.
– 6 –
قلناها من قبل:
في بعض الدول الإفريقية القريبة؛ التجارة في العملة الصعبة مجرَّمة أكثر من تجارة المخدرات وبيع السلاح.
مشهدٌ شاذُّ وغريب، إذ تجد وسط الخرطوم صغار تُجَّارِ الدولار أكثر انتشاراً من قوات الشرطة، وأكثر جرأةً من نساء الليل.
كبارهم يبذلون جهداً أقل، ويحصدون المليارات بين ساعة وأخرى وغفوة وانتباهتها.
. تجارة رابحة إلى التَّماس مع الفحش، وآمنةٌ إلى حدِّ الاسترخاء.
من أَمِن العقاب أساء لكُلِّ شيء.
إساءة الأفعال أبلغ من إساءة الأقوال.
– 7 –
من تقاطع المك نمر مع شارع البلدية، حتى قلب السوق العربي، صغار التُّجَّار يُلوِّحون جهاراً نهاراً بالعملة الوطنية مُهانة القيمة.
في مساحة محدودة وعالية الحساسية، وذات حضور أمني كثيف وكاميرات مراقبة مثل مطار الخرطوم، قبل أن تُقابل مستقبليك، من الأهل والأصدقاء، تجد صبية الدولار في استقبالك بابتسامة مراوِغةٍ وهمسٍ جهير: (داير تغيِّر عملة)؟
هذا المشهد لن تجده بهذا السفور إلا في السودان.
كبار تُجَّار العملة معروفون بالاسم والعنوان؛ لهم قرى وأحياء، بعضهم رموز مجتمع وآخرون في قوائم البر والإحسان.
ما لم تصبح تجارة العملة مُجرَّمةً نصاً وتطبيقاً، ومعيبةً اجتماعياً؛ فلن تنجح أيُّ معالجات تهدف إلى إعادة التوازن للاقتصاد السوداني، وتُنهي حالة الدوار.
– أخيراً –
ملاحقة تجار العملة والحد من السيولة، اجراءات اسعافية،اما العلاج فهو مضاعفة الانتاج وتقليل الانفاق الحكومي،والأهم من كل ذلك محاربة خفافيش الفساد.
ضياء الدين بلال