المتتبع للعلاقات المصرية- السودانية منذ منتصف عام 2016؛ يلاحظ بكل وضوح مدى التدهور الذي أصاب هذه العلاقة الوثيقة التاريخية. ذاك التدهور الذي لم يتوقف فقط عند حدود العلاقة بين الحكومات، بل امتد لقطاعات شعبية واسعة وخاصة في المجتمع السوداني، والذي يتميز بشكل فطري بقدر كبير جدا من الطيبة والمسامحة إلا أنه عنيد جدا وشرس عندما يشعر باستغلال طرفا ما تلك الطيبة وسماحته.
وللأسف الشديد، لم يدخر الإعلام المصري وسعا في توسيع فجوة الجفاء بين الشعبين، بداية من قلة أدب إعلام السيسي تجاه الشعب السوداني ورئيسه بعد زيارة زوجة أمير قطر للسودان، وسخرية الإعلام المصري من أهرامات السودان لإثبات أن مصر وليس السودان هي أساس حضارة وداي النيل. ثم تضاعفت السخرية من الشعب السوداني عشرات المرات بعد زيارة الرئيس التركي لدولة السودان، وتأجير جزيرة سواكن السودانية للدولة التركية بهدف إقامة قاعدة عسكرية ومنطقة اقتصادية.
لم تمض على مغادرة رئيس تركيا لدولة السودان أكثر من يومين؛ حتى استدعت دولة السودان سفيرها من القاهرة ردا على تجاوزات الإعلام المصري تجاه الرئيس البشير والشعب السوداني، في خطوة يراها الكثيرون بداية لتصعيد أكبر في المستقبل القريب وخاصة مع اقتراب افتتاح سد النهضة، وظهور دلائل تؤكد مخادعة حكومة السيسي للدولة السودانية، ورغبة السيسي في خلع السودان كشريك بمفاوضات سد النهضة وجعل المفاوضات محصورة بين مصر وإثيوبيا فقط برعاية البنك الدولي.
ومع التصعيد السياسي والإعلامي العدائي بين البلدين، بدأ ينضح على السطح ما يخبئه الضمير لدى الطرفين. فعلى الجانب المصري بدأت تحركات مخابراتية لخلق نوع من عدم الاستقرار بشرق السودان، بعد زيارة رسمية قام بها رئيس دولة إريتريا للإمارات العربية في نهاية عام 2017، أعقبتها زيارة للسيسي في القاهرة.. فما كان رد الحكومة السودانية على تحركات المخابرات المصرية في إريتريا إلا بمزيد من بث روح العداء والضغينة ضد الجارة الشمالية، والتي كانت شقيقة لها على مدار التاريخ. وفي نفس هذا السياق علق السيد الطيب مصطفى، رئيس لجنة الإعلام في البرلمان السوداني ورئيس حزب “منبر السلام العادل”، على موقف الخرطوم بشأن سد النهضة الإثيوبي، قائلا إن “سد النهضة سيخدم السودان، ولا يعنينا إذا أحدث بعض المشكلات لدولة أخرى. صحيح أننا لا نريد أن يحدث أي ضرر لمصر، فهو بلد شقيق والشعب المصري يعنينا جدا، لكن إذا كانت مصلحة السودان في ذلك، لا ينبغي أن نُحاسب إذا وقفنا مع السد”.
فحكومة السودان لديها اليوم الكثير والكثير من المشاكل الداخلية التي تجعلها تتخذ من خلافها مع الحكومة المصرية ساترا شعبيا لإخفاء حدة تلك المشاكل. ولذلك كان من المهم جدا البحث عن “خصم” خارجي يعلق عليه الرئيس البشير كل مشاكل السودان الاقتصادية والأمنية.
فدولة يمر بأراضيها النيل، ويسقط عليها قرابة 450 مليار متر مكعب من الماء سنويا، لا زال بها قرى كثيرة جدا تعاني من قلة مياه الشرب وبوار الأراضي. بل ينقطع عنها التيار الكهرباء بشكل أظلم كامل الدولة مرتين في أقل من عام واحد، آخرها انقطاع التيار الكهربائي عن كامل الدولة أثناء لقاء الرئيس عمر البشير لكلمة له بمدينة الرصيورص، شرق السودان، وذلك يوم 10 كانون الثاني/ يناير 2018.
المشاكل الاقتصادية للحكومة السودانية اليوم، ومع بداية تنظيم مظاهرات شبابية ضد حكومة البشير، هي ليست إلا فقاقيع انتفاضة تغلي بقاع المجتمع السوداني، ولكن لا يمكن مواجهتها بشكل مباشر لعدم وجود حلول واقعية، لذلك كان لا بد من التشويش عليها وإخفائها تحت السجادة.
فخيبة أمل الشعب السوداني في كل أحلامه التي نسجها على مدار العشر سنوات الماضية حول فوائد بناء سد مروي؛ لا تقل عن خيبة عن خيبة أمل الشعب المصري في كل أحلامه التي نسجها حول مشروع توشكي أو ترعة السيسي الجديدة.
فسد مروي، الذي تكلف أكثر بكثير مما خطط له ثم أنتج كهرباء أقل بكثير من المتوقع، جعل الحكومة السودانية في موقف مالي ضعيف جدا انعكس بشكل كبير على قيمة الجنيه السوداني أمام الدولار الأمريكي، وأيضا على حجم دفعات القروض الصينية وفوائدها السنوية، والتي لم تستطيع حكومة البشير دفعها، فتنازلت للبنوك الصينية عن العديد من الفنادق الحكومية، بالإضافة لقرابة 800 ألف فدان في مشروع الجزيرة وأراض غير معلومة المساحة بالمناطق الشمالية لبنك التصدير والاستيراد الصيني.
الأيام القادمة تحمل العديد من التطورات السلبية في العلاقات المصرية- السودانية، وخاصة بعد انتهاء أعمال القمة الـ30 للاتحاد الأفريقي. فانقطاع التيار الكهربائي عن دولة السودان بالكامل يوم 10 كانون الثاني/ يناير الحالي، ثم الانقطاع بشكل جزئي قبل أيام مضت، يراه البعض أنه ليس أكثر من إرهاصات حكومية تشبه تماما ما قامت به أجهزة المخابرات المصرية قبل أسابيع من انقلاب السيسي على الرئيس محمد مرسي. فلقد تعلم البشير الدرس من السيسي.
فكما كانت المخابرات المصرية تحبس البنزين عن المواطنين قبل انقلاب 30 حزيران/ يونيو لإثارة غضب الشعب المصري ضد الرئيس الشرعي للبلاد، بدأت أياد حكومية سودانية تلعب نفس اللعبة، ولكن ليس بهدف الانقلاب على الرئيس عمر البشير، بل بهدف إغضاب الشعب السوداني والتضيق عليه من خلال توفير كميات قليلة من الطاقة الكهربائية، واستغلال هذا الغضب الشعبي في مساندة القيادة السودانية في اتخاذ قرار تاريخي بانسحاب السودان بشكل أحادي من اتفاقية 1959 الخاصة بتوزيع مياه النيل بينها وبين جمهورية مصر العربية، واستبدالها باتفاقية عنتيبي لعام 2010.
فاتفاقية عام 1959 تنص على توزيع العجز الناتج عن أي أعمال هندسية تقام على مجرى النيل من قبل دول المنبع؛ بالتساوي بين البلدين. إلا أن حجم العجز الناتج عن بناء سد النهضة وما يلي سد النهضة من سدود تعلوه تحجز في مجملها قرابة 200 مليار متر مكعب حتى عام 2023؛ يجعل من الصعب جدا على دولة السودان الانصياع لاتفاقية عام 1959.
ولذلك، فليس من مصلحة الحكومة السودانية اليوم أو غدا التسامح مع مصر، حكومة أو شعبا. ولهذا فشعار “السودان أولا” الذي أطلقه رئيس حزب “منبر السلام العادل؛ سيكون له صدى كبير جدا في الإعلام السوداني خلال الأيام القادمة، تمهيدا لقرار الوقوف مع الحكومة الإثيوبية في خندق تعطيش الشعب المصري المحتل لمثلث حلايب.
وقد تكون نهاية شهر آذار/ مارس القادم، وقبل أيام من احتفال إثيوبيا بالعيد السابع لتأسيس سد النهضة يوم 6 نيسان/ إبريل 2018، أفضل توقيت للحكومة السودانية بإعلانها الانسحاب من اتفاقية عام 1959. وعلى الشعب والحكومة المصريين الاستعداد ليوم قريب تنضم فيه السودان لاتفاقية عنتيبي؛ ستجد مصر نفسها وحيدة على طريق العطش.
محمد حافظ
عربي21