يقول أحد معارضي النظام الإريتري عبر موقع مشهور على النت»، ليس هناك علاقة لإرتيريا مبنية على ثوابت الجيرة والتعاون في تعزيز المصالح المشتركة مع الأشقاء والأصدقاء، وإنما هي علاقة مأزومة تحكمها المصالح الضيقة الآنية والمزاجية وانفعالات متقلبة».
تحت هذا السياق، نشاهد هذه الأيام تسارع الأحداث بشكل لم يسبق له مثيل، خاصة في منطقة القرن الإفريقي. كان لبروز الخلاف الخليجي بين دول الحصار ودولة قطر قد أدى لخلط أوراق اللعبة ولعبت فيه الاتفاقيات المبرمة بين دول المنطقة في سبيل المصالح المشتركة أحد أهم أركان هذه التقلبات بظهور المحاور الجديدة. منها الاتفاق المصري السعودي حول حدودهما البحرية التي تنازلت مصر بموجبها عن جزريتي (تيران وصنافير)، واعتراف السعودية ضمنياً بتبعية حلايب وشلاتين لمصر. يقول مراقبون إن هذا الاعتراف أدى الى غضب الخرطوم التي بدأت تبحث عن محور جديد بعيد عن التحالف العربي الذي يضم السعودية والإمارات العربية ومصر. بالاتجاه نحو موسكو التي لم تتفاعل مع السودان بسبب علاقتها الجيدة مع مصر في الوقت الحالي، ما جعل الخرطوم تبحث عن آخر لذلك لم تتوقف طويلاً فاتجهت نحو تركيا التي ترغب في استعادة مجدها هي الأخرى باستعادة دورها الإقليمي، فكان ظهورها في السودان الذي به خلطت أوراق اللعبة من جديد رأساً على عقب، فدخلت أسمرا اللعبة بعد ظهور طلائع القوات المصرية وطائراتها في قاعدة ساوا الإرتيرية، والتي تقع على مقربة من الحدود السودانية الشرقية، ما اعتبره السودان تهديداً مباشراً له. كل هذا الضباب في الأفق بين الخرطوم وأسمرا -بحسب محللين سياسيين- يشير إلى أن التوتر الكبير بين البلدين بعد الأنباء التي تشير للقاءات مشتركة في قاعدة ساوا الإرترية بين قيادات عسكرية (إرتيرية ومصرية وإماراتية وقيادة المعارضة السودانية). هذه الأدوار المتقلبة للرئيس أسياسي أفورقي تجاه السودان، دفعت (الإنتباهة) إلى سبر أغوار تلك الدوافع التي غالباً ما تجعله في موقف عدائي للبلد التي كثيراً ما مدت له يدها بسخاء -بحسب محللين- آخرها طردها للمعارضة الإريترية من أراضيها قبل (14) عاماً في وقت ظل هو يمسك بمثيلتها المعارضة للحكومة السودانية، حيث أنها ظلت تتمسك بها لتستخدمها في لحظات مثيلة بصورة تجعل من الرئيس أفورقي رجل «متهجس» وكثير التقلبات غير مضمون العواقب. رغم أن السودان يعتبر أكبر مناصريه إبان نضاله لنيل الاستقلال في العام 1993م.
مزاجية متقلبة
يقول السفير عثمان السيد مسؤول الأمن الخارجي السابق وسفير السودان بإثيوبيا في فترات سابقة، قبل وبعد تحرير إريتريا يقول لـ(الإنتباهة) إني وبحكم معرفتي السابقة بالرئيس الإريتري أسياسي أفورقي منذ العام 1973 حينما كنت مسؤولاً للأمن الخارجي، إنه رجل متقلب المزاج حيث كانت علاقته ممتازة جداً بالسودان، مشيراً إلى ما قدمه السودان للثورة الإريترية منذ العام 1963م للثائر محمد عواثي وإلى أن تم التحرير في العام في العام 1993 . ولكن العداء اشتد بين البلدين في عهد الإنقاذ. وأشار السفير عثمان السيد إلى أن ما يشير إلى تقلب مزاجية أفورقي إنه وخلال استقلال بلاده في الفترة من 1993-2000 دخل في حرب مع كل من السودان وإثيوبيا وجيبوتي واليمن وهم يمثلون جيران اليمن من أصل خمسة دول وقد ساءت علاقته بهم عدا السعودية لاعتبارات معلومة وهي الحماية الأمريكية، لذلك لم يحاول الدخول معها في صراعات ورغم البحر إلا أن السعودية واليمن يعتبران حدوداً لدولة إريتريا. مضيفاً إن شخصية الرئيس أفورقي ظلت متقلبة وهي سبب في كل التوترات في علاقاته الخارجية فقد قاطع الاتحاد الأفريقي والإيقاد وحتى مواقفه مع الاتحاد الأوروبي أيضاً متذبذبة. أما داخلياً فهو ديكتاتوري وظل يقوم بأعباء كل الوزارات فيما يظل الوزراء مجرد موظفي سكرتارية لديه، كما أنه لا يوجد مجلس وزراء ولا أحزاب ولا حتى صحافة وحتى الحزب الحاكم فإن قياداته ليس لهم رأي وظل يقبع كبار السياسيين في المعتقلات تحت الأرض منذ زمن بعيد .
كراهية مشتركة
ويقول السيد بحكم معرفته اللصيقة بالرئيس أسياسي أفورقي إنه رجل شديد الذكاء ولديه أفكاره الخاصة لكنه لم يستخدم كل هذا الذكاء والمعرفة في مصلحة بلده التي تعتمد في أمنها الغذائي على السودان الذي استخدم ذكاؤه في محاربته بتشجيع تهريب المنتجات السودانية كالصمغ العربي وغيره من المحصولات عبر حدوده. وأكد عثمان السيد إن الشعب الإريتري شعب طيب ومتميز وتربطه علاقات كبيرة جداً مع السودان. فيما ربط مزاجية أفورقي وتآمره أخيراً ضد للسودان بوضع يده مع مصر ناتج من كراهيتهما المشتركة لدولة إثيوبيا التي وجد السودان نفسه أمام خيار التعامل معها بإقامة علاقات إستراتيجية معها وذلك لأنها (أعقل جار) له -بحسب السفير عثمان السيد- وزاد رغم ذلك ظل السودان ينظر لموضوع سد النهضة الذي تناهضه مصر من زوايا مصالحها.
بغضه للإسلاميين
وأكد السيد إن مزاجية وتقلب أسياسي أفورقي بين الكره والقبول للسودان لم ينتج من أن السودان حاول التدخل في الإملاء عليه بسبب علاقاته الخارجية مع إسرائيل، مؤكداً إن ذلك من حق إريتريا في التعامل الخارجي ولا يمكن للسودان أن يملي عليه مشيراً إلى أن إثيوبيا التي يتعامل معها السودان تتعامل مع إسرائيل ولا يجد السودان حرجاً في التعامل معها، لكن أفورقي لديه مرحلة الاستخفاف بالسودان والسودانيين، وأنا أعرفه جيداً لأنه ظل ينظر له بالدولة الإسلامية كما إنه له مواقف متطرفة ضد الجامعة العربية. وتطرق عثمان السيد إلى مبادرة المصالحة التي طرحها الرئيس الراحل معمر القذافي الذي حاول إصلاح العلاقات بين السودان وإريتريا وقال عندما سأله القذافي عن أسباب كرهه للحكومة السودانية رد أفورقي بإنه لا يكرهها وليس لديهم مانع في تحسين العلاقة مع السودان، ولكن السفير السوداني في إثيوبيا (وهو يشير إليَ) يعمل على تعطيل العلاقات معنا في إريتيريا على حساب إثيوبيا التي كنت سفيراً بها وقتها لجهة أن علاقاته مع إثيوبيا كانت في أسوأ حالاتها.
عسكرته للشعب
ولكن بروفيسور الفاتح محجوب مدير مركز الراصد المحلل السياسي يرى في حديثه لـ(الإنتباهة)، أن الرئيس الإريتري أسياسي أفورقي هو رجل مناضل ذو عقلية أمنية وصاحب مذهب اشتراكي وهو منفتح على السودان وراغب في التعامل معه، ولكنه متوجس دوماً من الاتجاهات الإسلامية للحكومة السودانية، ويتخوف بشدة من علاقاتها الجيدة مع النظام الإثيوبي وهو يحكم دولة فقيرة الموارد ولكنها متعسكرة تماماً مثل إسرائيل فكل مواطني إريتريا إما يعملون في الجيش أو هم احتياطي الجيش ويشمل ذلك النساء والرجال بدون فرز وهناك تحكم حكومي شامل في الحياة الإرتيرية بما في ذلك تنقل السكان من مدينة إلى أخرى. ويزيد الفاتح إنه وبهذه العقلية المتوجسة يحتفظ بحركات متمردة ضد السودان منذ أكثر من عقد وهو اعتاد على منعهم من ممارسة أي عمل فعلي ضد السودان ولكنه بالمقابل يوفر لهم المقر انتظاراً ليوم تسوء فيه العلاقات بين الدولتين.
لا زال من الممكن
تاريخياً كان أفورقي حليفاً للسودان الذي ساعده على استقلال بلاده، ولكنه أيضاً متخوف بشدة من المعارضة الإسلامية الإرتيرية التي سبق للحكومة السودانية في منتصف التسعينيات أن دعمتها وهو سبق له أن رد بعنف بتسليم السفارة السودانية لتجمع المعارضة وفتح أبواب بلاده للعمل العسكري ضد السودان. ويؤكد محجوب إنه لا زال من الممكن العمل مع الرئيس أفورقي وكسبه لصالح السودان، فالرجل له مودة كبيرة للشعب السوداني والرئيس البشير، ولكنه أيضاً يخاف بشدة من السودان ومغامراته غير المضمونة، ولذلك أرى أن يمارس السودان سياسة (تصفير) المشكلات مع أفورقي ما أمكن والسماح للمنتجات السودانية بالتدفق لإرتيريا والعمل على ضمان عدم قيام إثيوبيا بهجوم على إريتريا مقابل سحب أفورقي من معسكر مصر وهذا أمر ممكن إذ لازال أفورقي في البر فكل ما يقال عن قواعد عسكرية مصرية في إريتريا لا أساس له من الصحة حتى الآن، ولكن حركات دارفور موجودة فعلياً في إريتريا وهذا أمر ممكن احتواءه بسهولة بالتنسيق الجيد مع أفورقي الذي يهمه ضمان أمن بلاده أكثر من أي شيء وضمان نظامه الذي يعني فعلياً ضمان أمنه الشخصي.
علاقة مصالح
أما دخول رابط العلاقة بين السودان وإثيوبيا في هذا الملف، فإن البروف الفاتح محجوب يرى إنها علاقة مصالح بالدرجة الأولى، لأن سد النهضة ما كان يمكن أن يقوم لولا موافقة ودعم السودان فهو قريب من الحدود السودانية بما يكفي لجعله ضمن مرمى التهديدات المصرية إن سمح لها السودان كما أن دعم السودان وهو طرف أساسي في معظم اتفاقيات تقسيم مياه النيل ينهي فعلياً القوة القانونية لأية احتجاجات مصرية على السد لأن أحد أهم أطراف تلك الاتفاقيات موافق على قيام السد ومن جهة أخرى فسد النهضة يمثل للسودان نصف الأهمية التي يمثلها السد العالي لمصر، فهو يحجز جزء مهم من المياه في فترة الفيضانات والتي عادة لا يستطيع السودان بخزاناته الصغيرة التعامل معها وبالتالي تمر بالكامل لمصر وهو ما حال تاريخياً دون استفادة السودان من نصيبه في مياه النيل وحال بالتالي دون التوسع الرأسي في مشروع الجزيرة وحال دون تنفيذ مشروعي كنانة والرهد وحال دون التوسع في الزراعة المروية في ولايتي نهر النيل والشمالية. وعليه فإن العلاقة بين السودان وإثيوبيا يجب تنميتها والمضي بها قدماً مع تجنب الاصطدام مع جمهورية مصر ما أمكن ذلك والعمل الدؤوب لسحب أفورقي بعيداً عن مصر وهو فعلياً مزاجه أقرب للسودان وسيرد على كل توجه إيجابي نحوه بأحسن منه، ويجب الحرص على تسكين هواجس أفورقي تجاه السودان بالتنسيق القوي مع إثيوبيا التي بدورها لا ترغب حالياً في حرب مع إريتريا لا مباشرة ولا بالوكالة، لأنها مشغولة بتنفيذ خطط تنموية طموحة ولا تريد أن يتم جرها لمربع استنزاف مواردها في الحرب.
مصر في الخارطة
جمهورية مصر بالرغم من كل ما تفعله، هي أيضاً غير راغبة في التصعيد المباشر مع الحكومة السودانية، ولكنها ستسعد إن تم جر السودان إلى دوامة عدم الاستقرار بدون أن تكون هي طرفاً مباشراً في ذلك، لأن مصالحها في السودان متشعبة جداً وهي لا مصلحة لها قط في انهيار السودان ولا ترغب في ذلك، ولكنها أيضاً لا تريد للسودان أن ينتظم في مشروعات تنموية تستهلك كامل حصته من المياه وتدخله في دوامة حسابات حول الإيراد الحقيقي لمياه النيل وقصص أخرى لا ترغب الحكومة المصرية في فتحها. وأعتقد مدير مركز الراصد بأن الحل الفعلي لأزمة السودان ومصر يكمن في الدخول في اتفاقيات تكامل حقيقية تدمج اقتصاد الدولتين بشكل متدرج بعد إدخال إصلاحات على النظم الإدارية والقانونية بما يجعل كامل إيراد النيل فعلياً للدولتين ويجعل الأرض كذلك وبالتالي تصبح مصلحة السودان ومصر واحدة وهذا موقف مهم جداً لمواجهة المطالبات بتسعير المياه التي ينادي بها البنك الدولي، لأن كل دول الحوض الأخرى فعلياً غير محتاجة لمياه النيل للري ولكنها راغبة في بيع ما تستطيعه إن وجدت لذلك منفذاً.
مكسب للجميع
إذن.. إن الأزمة التي دخلها أفورقي طرفاً بين الخرطوم والقاهرة، يمكن أن تزول بحسب الفاتح إذا تراجعت مصر من مواقفها العدائية تجاه السودان بتشعيل الصراع بين السودان وإريتريا وإعادة الخارطة الجيوسياسية بين بلدان المنطقة إلى سابقاتها من التعايش مراعاة للمصالح المشتركة. وزاد بالرغم من كل المشاحنات الحالية الظاهرة والمستترة بين حكومتي مصر والسودان التي انتقل بعضها للشعبين إلا أن قدر الدولتين هو التعاون والتنسيق والتحالف ويجب على قيادتي الدولتين أن تكونا على قدر المهمة ويجب على الحكومة السودانية أن تعمل على تقوية الجيش والأمن، لأن القوة تساعد على حسن التفاوض وتساعد على إفهام الآخر أن الثمن سيكون غالياً إن تهور، وبذلك يصبح التعاون هو قدر الدولتين وهو واجبهما أيضاً وليس مطلوباً من الحكومة السودانية أن تتنازل عن حقوق الدولة السودانية لتنال رضا مصر، بل الحزم والحكمة والقوة والدبلوماسية ومثل ذلك عملياً اعتادت عليه مصر في العلاقات الدولية يمكن للجميع أن يكسب ويمكن أن يكسب البعض فقط ولكن متى ما كان الثمن غالياً تختار الدول التعاون وخير مثال حالتي إيران وكوريا الشمالية.
الانتباهه.