هنا السطوع.. فلا ليلٌ ولا غلسُ ..!..

(أ)
كان له وجهٌ خاشعٌ، مُسرج على خيول الضياء، كوجه نبي أشرق بنورِ السماءِ، ولكن.. كانت عيناه ساهمتان.. زاهدتان.. باردتان.. غافلتان عن كل شيء.. حتى من مرأى ريح الشقاء وهي تحملُ الآمالَ على أكُفها وتُلقيها في قاعِ السراب البعيد..

ليس هناك رابطٌ بين عينيه الشاردتين وحضور وجهه المُشعُ، إلا تلك المسافة الفاصلة بين الأمل الطلْق الجناح والقدرة المُطْفأة الأسرجة، وما بين القناعة التي تنسكب على صفحة الفؤاد النقي النصوع.. وتوثُّب الرغبات الجامحة، وهي حالة لا تجدها بائنة إلا عند العرفانيين والمتصوِّفة، ومن خبروا الدنيا وعرفوها.. في درب الحياة الطويل المتعرج، تطل وجوه من وراء السجوف والحجب والأستار السميكة، يتأبى عليها الرحيل والانزواء والانكفاء خلف الظلام والظلال، أشبه ما تكون بالبدر وراء السُّحب المُرتفعة كلما نشرت السحب عليه رادءها، أطل وجه بعد حين من ورائها كما الندى في أكمام الوردة.. والابتسامة التي تخرج من ركام الحزن والدموع.. أين هم يسكنون في هذه الحياة..؟ أبين الجلد واللحم..؟ أم بين الحب والإشفاق والضغينة والرحمة..؟! هل يملأون المسافة ما بين الظل والضوء..؟ واللحاء والشجر.. النهر والضفاف.. وفي المروج الطويلة ما بين النظرة والابتسامة والخد والدمع الهريق..؟ من اللامكان.. يأتون للحياة ..!وفي اللازمان.. يخرجون منها ..! كأنه قد كتب عليهم أن الحياة ومضة سريعة براقة خؤون، إن لم تعشها كما يجب في دورانها ومتاهتها وخداعها وسكونها وصخبها، جرفتك معها إلى الحضيض ..!

(ب)
كان قبل سنوات طويلة يأتي إلينا كأنه ينتعل حذاءً من برق، سريعاً يطل وعجولاً يذهب!. ليس وراءه إلا العطر والطمأنينة والسلام والود الذي يتركه وراءه في الأمكنة والقلوب.. ثلاثيني يتمثل وصفاً نورانياً في هيئته أستله مما يعجبه في ما وُصف به الملك جبريل عندما أتى على الرسول الكريم في صورة بشر،)شديد بياض الثياب(، وجهه وهو في زاهر عمره يفيض ببريق غريب وعجيب، تجري على لسانه أدعية الحمد والثناء كمن اغترف من ماء الجنان فلم يعد لسانه إلا شاكراً حامداً ذكوراً.. في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، أقلتنا سيارة صغيرة من ماركة اللاندروفر، من نيالا صوب الخرطوم عن طريق الفاشر، أيام كانت الحياة في دارفور هانئة، لم تعرف سفك الدماء وسيل الدموع ورائحة البارود والموت والأشلاء.

قبل التحرك في وسط السوق الكبير وهو يضج بحركة التجارة والباعة والسيارات واللواري وازدحام المارة وضجيج المتسوقين ولجاجات المتبايعين، وقبل التحرك بلحظات اتكأ على مقدمة العربة الرجل الذي نعرفه بجلبابه الأبيض وابتسامته الصافية والقلق المعربد في عينيه، وقال لنا:) ما تنسوا في هذه الرحلة أن تمروا على فلان فلديه وصية).. وذكر اسم رجل مغمور لا صيت له ولا سيرة، لكن بعضنا يعرفه.. ثم أفتر فمه بابتسامة عريضة أخرى وزاد بقوله: (لعلكم تعرفون سره قبل السفر).. لعل توهجاً قد بدا لنا أو قُل قبساً في الكلمات القصيرات الناحلات الموحيات، تفتق في سماء الفضول شهاباً، لمعرفة سر الرجل المغمور الذي ذكره لنا محدثنا ذي الثياب شديدة البياض، وكنا يومها في شباب غض وتطلع يملأ الأرض وأركان السماء.. ولحظة أن تحركنا بالعربة إلى موقع ذلك الرجل المغمور البسيط.. كانت السماء تنذر برعدها وبرقها، وقد انفتحت مزاريب الفضاء..

(ت)
كان المطر يهطل عندما جلسنا الى الرجل في قطيته البسيطة وموقد النار قد احمرَّ جمره، وصوت الماء يغلي في إناء الشاي الصغير يشبه فوران الضجر في صدر صديقنا (علي) الذي كان يصر على السفر قبل أن تمتلئ الوديان والخيران ويتعطل المسير الطويل، صب لنا الشاي الساخن على أكواب ذهب لمعان زجاجها، ووجهه جامد إلا من تلك النظرة الغريبة التي كانت تطل من عينيه، وهدير السيارة في الخارج يخالط صوت المطر وهزيم الرعود والسائق العجول بكل قلقه يدوس على دواسة البنزين بين فينة وأخرى، يذكرنا بوجوده وضرورة السفر تاركاً أبواق السيارة لطلبه الأخير.. قال لنا الرجل بصوت مهموس: ( لدي وصية صغيرة أحملوها عني لرجل ستجدونه في قرية نائية بين أم كدادة والنهود).. وأعطانا وصفاً دقيقاً واسماً للقرية ومكان لقاء الرجل ووصفه.. ثم أتى بِصُرة في حجم البطيخة المتوسطة الوزن، القماش الذي لفت فيه الصرة رمادي اللون وباهت كقصب القطية القديمة.. لم نسأله ما فيها، كنا متشوقين للسفر لا مبالين بوصايا الكبار، والمطر بلل ثيابنا ونحن نخرج منه ترتجف أجسادنا النحيلة كما العصافير ببللها القطر الهطول.. قمزنا لبعضنا ساخرين.. وأقبل بعضنا على بعض متسائلين أين السر وراء هذا الرجل..؟ ودارت العربة وإطاراتها تثير التراب المبلل والطين ليلطخ بعض المارة، بينما كان صوت مغنٍ محلي على شريط التسجيل يصدح بأغنية (قمرية فوق الزنكي) يضيع ما بين ضحكاتنا صديقنا (جمال) يدعو بدعاء السفر..

(ث)
بتنا ليلتنا في الفاشر، ومع شروق الشمس توجهنا صوب أم كدادة، كانت الأرض قد لبست سندسها الأخضر، خاصة مناطق القيزان والرمال، فما بين لون التراب والعشب آصرة جمالية نادرة، خاصة عندما تنبت وسط الرمال الجبال.. كانت مدينة أم كدادة في ذلك الضحى ضاحكة بشمسها الساطعة في أيام الخريف، حركة التجارة والشاحنات واللواري السفرية القادمات من أم درمان والأبيض متجهة نحو الفاشر ومدن دارفور الأخرى، تملأ سوق المدينة الصغيرة بشوارعها الواسعة ومبانيها القديمة ومدارسها العريقة ومطاعمها الضاجة بالحركة والناس.

لم نمكث إلا ساعة واحدة، تحركنا بعد التزود ببعض الماء، في رحلة طويلة نحو بروش والدم جمد، مررنا بمزارع البطيخ وطلعه الأخضر وحباته الصغيرة التي لم تكبر بعد، وبعض المزارع التي تركت من الخريف الماضي قد اخْضرَّ يابسها من عشب وقصب وبقايا سيقان الذرة والدُّخن، وكنا نبحث ساعتئذ عن تلك القرية الواقعة في هذه الأباطح بوصفها وشجراتها السوامق التي وصفت لنا وصهريج الماء والدونكي التليد، وكانت الصُّرة الملقاة خلفنا في السيارة تنتظر لحظة وصولها لمقصدها.. وعندما لاحت لنا من بعيد، قررنا ألا نتأخر إلا لحيظات لتسليم الأمانة ثم المغادرة فوراً..

(ج)
لم نجتهد كثيراً في العثور على بغيتنا، عند طرف القرية خلوة صغيرة بجانبها قطية زاوية في مكان قرية، يعيش فيها شيخ الخلوة، استقبلنا دون استغراب لعله يعلم بوصولنا، ولم يكترث كثيراً لمحاولتنا الإشارة لبعضنا بالتحرك السريع.. قال لنا (الوصية دي سلموها قدام ومعها اللوح دا..)!! استغربنا وتلفتنا ونظرنا لبعضنا مندهشين، أخذنا منه الوصف لقرية في ضواحي مدينة النهود عند طرف جبل وحيد يشمخ في تلاله، عندما تحركنا بدأ البعض يشكك في جدوى قبولنا لحمل وصية الرجل المغمور في نيالا.. لكننا واصلنا المسير.. كانت شمس ما بعد الظهيرة والعصر لافحة، والطريق الترابي شاق.. حينها وجدنا أنفسنا بسيارتنا الخفيفة على روابي من الرمال وأمامها جبل صغير لا يقوى على الإطلالة بقمته في وجه الفضاء العريض.. عند القرية الراقدة على طرف الجبل الجنوبي، دلنا طفل صغير على الرجل الذي نبحث عنه، فما أن وجدناه حتى قال قبل أن نشرح له كثير (من يبحثون عنه سافر الى النهود ستلقونه هناك في باب المسجد الكبير من الناحية الشمالية يحمل عكازة معقوفة وسبحة ألفية من اللالوب.. واسمه صالح ). وصلنا النهود عند الغسق.. بتنا ليليتنا في دار الثقافة الإسلامية بوسط المدينة وهي مقر قديم للدعوة والنشاط الإسلامي، كانت تأوي عابري السبيل أمثالنا وتُقام فيها نشاطات عدة، في الصباح وقفنا قليلاً أمام (مكتبة بيلو)، تجادلنا أمرنا في الوصية التي معنا والوقت ليس وقت صلاة..! استقر الرأي أن نذهب إلى المسجد لنلاقي الرجل لأننا سنتحرك ونغادر النهود.. كان المسجد قريباً كنا من ناحيته الجنوبية، درنا شمالاً وأمام بوابته كان هنالك رجل يقف معطياً ظهره لنا لكن المسبحة الألفية من اللالوب بين يديه.. عندما اقتربنا منه يا للعجب والدهشة ..!وجدنا صاحبنا شديد بياض الثياب الذي كان متكئاً على عربتنا قبل مغادرة نيالا.. وسط دهشتنا ومع ابتسامته وعينيه الساهمتين الزاهدتين الغافلتين الباردتين.. استل الصرة واللوح من بين أيدينا.. وقبل أن نفيق كان قد اختفى..

الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة

Exit mobile version