الدول كالأشخاص، حينما تبتعد عن حاضنتها الطبيعية تلقى من العنت والمشقة الكثير، فقد تركت السودان حاضنتها الطبيعية مصر واتجهت تارة إلى العراق أيام صدام حسين الذى كان على خلاف مع مصر أيام السادات وقتها، ليس بسبب كامب ديفيد ولكن بسبب رغبة دفينة لدى صدام فى زعامة العرب لم يكن مؤهلاً لها ولا العراق مستعداً لها.
– والتى أعقبتها مقامرات صدام الطائشة تارة مع إيران وتارة باحتلال الكويت ما أدى لمحاصرة العراق فغزو ثم النهاية المأساوية لصدام والعراق، وكل ذلك أطاح بهذا التحالف العبثى كما أطاح بكل شىء بناه العراق الحديث وما أكثره.
– ثم اتجه السودان بعدها إلى التحالف مع إيران وأعطى سماحات كثيرة للمراكز الثقافية الإيرانية التى تجيد بث المذهب الشيعى وتكوين الكوادر وبث خلايا للحرس الثورى الإيرانى وما أكثرها اليوم فى بلاد العرب، وهذه الخلايا فى بلاد العرب هى التى ساعدت فى تدشين الإمبراطورية الإيرانية على حساب الدول العربية التى تتمتع بغباء وضعف وتفرق لا نظير له.
– السودان دولة سنية عريقة فى مذهبها وفكرها، وهى تختلف عن إيران فى كل شىء، فى اللغة واللون والمذهب والعادات والتقاليد، فضلاً عن المسافات والقارات، ولذا لم يدم التحالف بينهما طويلاً، فقد كان يقض مضاجع الجيران العرب مثل مصر والخليج، وهم أقرب إليها من إيران فى كل شىء.
– ثم احتضن السودان أيام تحالف الترابى مع البشير أسامة بن لادن ومجموعته لكى يستثمروا فى أرض السودان ولكنهم استثمروا فى إزعاج الآخرين، فقام بن لادن ومجموعته بتدشين الفكرة المعروفة، التى أطلق عليها مشروع إخراج الصليبيين من جزيرة العرب.
– هنا ردت السعودية على السودان بدعم جون قرنق لسحب البساط من تحت الترابى والبشير، وكانت هذه بداية لانفصال جنوب السودان ما اضطر السودان لترحيل بن لادن إلى أفغانستان.
– كان الترابى يحلم أيام تحالفه مع البشير أن يجعل السودان دولة محورية أو إمبراطورية مصغرة فى شرق أفريقيا، وذلك بجمع الحركات الإسلامية كلها تحت لوائه، لم تكن السودان مؤهلة لهذا الدور الكبير ولا الحركات الإسلامية السنية يعول عليها فى ذلك، فهى ممزقة متصادمة مع نفسها ومع دولها وغير متطورة الفكر ويصعب السيطرة عليها وتنظر تحت أقدامها أكثر مما تنظر أمامها، ولذلك أضرت هذه الحركات بالسودان ونفسها، ومنها الجماعة الإسلامية التى أقدمت على محاولة اغتيال فاشلة لمبارك فى أديس أبابا ما أدى إلى صدام مروع بين مصر والسودان، وقد أحسن مبارك وقتها برفضه ضرب السودان عسكرياً، قائلاً إن الخرطوم مثل القاهرة، ولكن مصر والغرب كله وأمريكا شددوا الحصار على السودان، وكانت هذه نقطة النهاية لانفصال جنوب السودان، وانفصال البشير عن الترابى، تصالحت مصر والسودان بعد تسليم الأخيرة لقائد عملية أديس أبابا.
– السودان حضنها الاستراتيجى هو مصر، كانتا دولة واحدة، بعض الأسر المصرية أصولها سودانية، والعكس صحيح، آلاف الأسر السودانية تعيش فى مصر، خاصة فى «أسوان والقاهرة والإسكندرية».
– السودان لا يجد نفسه فى محيطه الإقليمى، يحاول الاقتراب من مصر المرة تلو المرة، مرارات التاريخ تمثل غيره، ومشاكل الحاضر تمثل أزمة أيضاً.
– رد على الإهمال باللجوء لتركيا، خصم مصر والسعودية الآن، وحليف روسيا وإيران، يريد أن يقول للجميع تركتمونى فى العراء وحيداً، مع أننى كنت أريد احتضانكم، لا تلومونى إذا بحثت عن بيت غير بيت أبى.
– هكذا جاءت تركيا إلى البحر الأحمر، وستأخذ جزيرة سواكن الاستراتيجية التى ستكون معبراً استراتيجياً إلى أفريقيا كلها، أهملنا قبل ذلك أفريقيا وإثيوبيا وبلاد حوض النيل فحلت فيها كل الدول.
– واليوم ومن قبل نترك السودان العمق الاستراتيجى الأقوى والأهم لمصر وفيها منابع النيل ومجراه وكنوز الدنيا كلها، قبل أن نلوم السودان علينا أن نلوم أنفسنا، فقد كان بإمكاننا فعل الكثير والكثير لكيلا نخسر السودان.
د. ناجح إبراهيم
الوطن المصرية