إذا لم تُغيِّرُ دوائر اتخاذ القرار في مصر، كتلوجها القديم في التعامل مع الخرطوم، ستجد نفسها مُمسكةً بحلايب، وفاقدةً لكُلِّ السودان حاضراً ومستقبلاً

(كتلوج) مصري!
-1- فعلَها بروف إبراهيم غندور، وضع النِّقاط على الحروف، والملحَ على الجراح.

قالها أمس، بكُلِّ صراحةٍ ووُضوحٍ، مُجرَّدةً من المساحيق الدبلوماسية: (مصر تُفكِّر على طريقة: لا تجعلْ جارك يقوى).

ما قاله غندور، أصبح قناعةً راسخةً لدى أغلب السودانيين:
مصر لا ترغب في سودانٍ قويٍّ ومُزدهر.

بمعنى أدق:
بعض الدوائر في مصر الرسمية، تُريد السودان دولةً ضعيفةً اقتصادياً، ومضطربةً سياسياً، ومُختلَّةَ التوازن.
كُلّ ما يُقدُّم السودان ويُسهم في استقراره وازدهاره، يُقلِقُ دوائر مصرية، تعوَّدت أن تتعامل مع السودان كتابعٍ وخادم، لا يملك من أمره شيئاً.
-2-
الذهنية الأمنية التي تتعامل بها تلك الدوائر مع السودان، كحارسٍ للبوابة الجنوبية وحارسٍ لمياه النيل، لا تُريده سوى (بوَّابٍ) أمينٍ على المصالح المصرية.
الانفلات التعبيري من قِبَلِ الإعلام المصري، الذي يفتقد الحساسية في التعامل مع الشعوب، يُحوِّل الخلافات بين الحكومتين إلى عداءٍ بين الشعبين.
بإمكانك أن تُسيء لفرد، ومن حقِّه أن يصفَح عنك لاعتبارات تخصُّه، أو لسجيَّة في طبعه.
ومن حقِّك أن تُهاجم حكومةً ما، ومن حقِّها أن تُهمل ذلك لمصالح ترتجيها أو مخاوف تخشاها.
ولكن إيَّاك أن تُسيء لشعبٍ، فذلك لا يُغتفر لأنَّ للشعوب ذاكرة مُضادَّة للنسيان، وما يرسخ في وجدانها لا تُزيله كل المُنظِّفات، ولا تُجمِّله مساحيق المجاملة.
لكُلِّ فردٍ أن يعتقد في نفسه وفي دولته ما يشاء من العظمة والكبرياء؛ ولكن يجب ألاّ يتم ذلك باستصغار الآخرين وازدرائهم، كم فعل المعتوه الأهوج أحمد موسى.
انتقل من الهجوم على الحكومة السودانية، إلى الطعن في الكبرياء الوطني السوداني، بمعلوماتٍ صدئة وأكاذيب لامعة.
-3-
لا أحد يُجادل في عظمة مصر، ولا في تاريخها؛ ولكن في المقابل، لا يُوجد سودانيٌّ سليمُ الوطنية والوجدان، يقبل بوضع سُمعة شعبه في صناديق القُمامة.

صحيحٌ أن هناك مجموعات مصرية مُستنيرة، تتعاملُ مع السودان بكُلِّ احترامٍ وتقدير، وأغلب الشَّعب المصري، مُحبٌّ للسودانيين، وليس لهم مشاعر سالبة تجاه السودان.

ما يحدث من تصعيدٍ غير مسبوق، في الفترة الأخيرة، بين السودان ومصر، ليس مصدرُه النزاع على حلايب؛ فالقضية قديمةٌ وهي لا تُمثِّل أكثرَ من تيرمومتر لقياس مستوى العلاقة صعوداً وهبوطاً، فإذا غضِبَتْ مصر من زيارة أردوغان صلَّى وزير الأوقاف في حلايب بلا وضوء.
مصدر الأزمة المتصاعدة وبؤرتها، هو موقف السودان المُؤيِّد لقيام سدِّ النهضة الإثيوبي.
لأول مرَّةٍ في تاريخ العلاقة بين البلدين يتَّخذ السودان موقفاً في ملفِّ المياه، مُستقلاً عن الموقف المصري.
-4-
السودان اختار تبنِّي هذا الموقف بناءً على مصلحته الوطنية، التي لا تتعارضُ مع المصالح المصرية.
الذهنية المصرية تُريد للسودان أن يظلَّ تابعاً لها في ملفِّ المياه، لا يملك إرادةً ذاتيةً في تحديد مواقف غير مُقترنة بالموقف المصري.

الطريقة التي يُعالِج بها الإعلام المصري قضية سدِّ النهضة الإثيوبي، لها كثيرٌ من المخاطر والمضار، والأهم من كُلِّ ذلك، أن ما يُقال في الفضائيات وأجهزة الإعلام يُخلِّف آثاراً سلبيةً على صورة مصر في الرأي العام السوداني.
-5-

في مصر، كُلُّ ما يقال في الإعلام ويُردَّدُ باستمرار، يتحوَّل لقناعات لدى الجماهير ومقولات شائعة.
ورغم سذاجة بعض الاتهامات وسخفها، لكنها سرعان ما تنتشر بصورة قياسية، مثل فرية إنشاء قاعدة عسكرية تركية في سواكن.

العلاقةُ ظلَّت لسنواتٍ طوالٍ مُحتجزةً في عبارات المُجاملة والمُلاحظات اللطيفة، والآن انتقلت إلى الإساءات المُتبادلة في وسائل التواصل الاجتماعي.

-أخيراً-

إذا لم تُغيِّرُ دوائر اتخاذ القرار في مصر، كتلوجها القديم، ومُرشِدَها البالي، في التعامل مع الخرطوم، ستجد نفسها مُمسكةً بحلايب، وفاقدةً لكُلِّ السودان حاضراً ومستقبلاً.

ضياء الدين بلال

Exit mobile version