ميزان الرئيس
-1- شدَّت انتباهي طريقةُ المصافحة بين الرئيسَين عمر البشير وإدريس ديبي بمطار انجمينا.
الصور نقلت مشهدَ عناقٍ حميم، لا نجدُه عادةً في المصافحات البروتوكولية بين الرؤساء.
سلام دافئ، وابتسامات محسوبة، على مقياس العلاقة، ودَّاً وجفاءً.
ما بين البشير وديبي، كان هناك سلام عفوي بالأحضان الحارَّة، على طريقة قدامى الأصدقاء، سلامٌ خارج محددات لوائح المراسم وحسابات الخطوات واللمس.
حينما شاهدتُّ الصور تذكَّرتُ كيف كانت العلاقة قبل سنوات، حينما اشتدَّت وطأة الخلافات، وتصاعد الصراع إلى طرْق أبواب العواصم بالرصاص.
انجمينا كانت على مشارف السقوط، لولا الطائرات الفرنسية.
ذراع إدريس ديبي الطويلة وأحذيته الثقيلة، كادت أن تعبر جسر النيل الأبيض إلى القصر الجمهوري، في هجوم خليل.
-2-
انتهى كُلُّ ذلك إلى غير رجعة، وعادت المياه إلى مجاريها، على صفاء الود وحُسْن تقدير كُلِّ طرف لقوة الآخر ومدى أذاه.
اتفاقية حماية الحدود المشتركة بين الدولتين تُعتبر درساً عالمياً في مُقرَّرات العلاقات الدولية.
الرئيس سلفاكير تمنَّى نقل التجربة إلى علاقة جوبا بالخرطوم.
الأمر عسير وصعب مع دولة الجنوب.
سلفا ليس ديبي.
سلفا كير ضعيفٌ ومُتقلِّبٌ تقوده الوساوس وتسكنه الظنون، ويَشتبه حتى في أصابع يديه.
-3-
استطاعت الدبلوماسية الرئاسية، تجفيفَ كثيرٍ من البرك التي كان يتوالد فيها ناموس الظنون السيئة.
العلاقة مع واشنطن الآن قائمة على فقه التعاطي: هات وخذ.
ومع دول الخليج، التعاون لا التبعية، والتنسيق لا الانقياد.
ومع إيران صد العدوان لا الاعتداء، وما بين الخرطوم وطهران، الخلاف وليس العداء.
ومع مصر، الحفاظ على مصالح السودان العليا وفق حقوق الاتفاقيات وثوابت التاريخ: المياه والحدود.
مع كامل الود والتقدير (أكلوا أخوان وإتحاسبوا تُجّار).
ومع دولة الجنوب، كف الأذى وتبادل المنافع (أبو القدح بعرف مكان بعضِّي أخو)، فالأفضل تبادل القبلات لا العض!
-4-
ظنَّ البعضُ أن الرئيس عمر البشير حينما تحدَّث إلى الرئيس الروسي بوتين، كان غافلاً عن مايكات الإعلاميين، فخرج ما أراده همساً وسراً إلى العلن الجهير!
البشير بخبرته الطويلة في الحكم ومقابلة الرؤساء، ما كان ليقع في مثل هذه الأخطاء الابتدائية الساذجة.
من الواضح أنه أراد إسماع آذان كثيرة، كانت تسترق السمع خلف الثلوج الروسية. السودان في يده من الأوراق ما يُمكِّنه من الوجود الحي والفاعل داخل المعادلات الدولية.
الموقع يُميِّز والجغرافيا تُعين.
والسياسة فنُّ اتقان المُناورة، وكسب النقاط.
والسودان هنا ليس في موضع اليد السفلى، والوجه المنزوع الكرامة في انتظار عطف أمريكي، يُعطى بمقدار الشح ، ويطلب بسعة شراهة الحاجة وشهوة الامتلاك.
-5-
في سنوات الحكومة الأولى كانت العلاقات الخارجية تُحلِّق بجناحين من ثلج، علاقات تقوم على افتراض قوة مُتوهَّمة تجمع بين التقديس والفهلوة، فوقع اصطدام المصالح مع الأيدولوجيا.
وفي فترة لاحقة، بُنِيَت العلاقات بفقه الضعف، فتأذت الأيدولوجيا ولم تُتحقِّق المصالح.
-أخيراً-
منذ سنوات وحتى الآن تُمارس الحكومة بوعيٍ واقتدارٍ، دبلوماسية الأبواب المُشرعة:
المبادئ الثابتة والمواقف المتحركة وارتداء أحذية المطر في الملاعب المُبتلَّة.
ضياء الدين بلال