يُعيد الإعلان عن تقديم رئيس مجلس الصحوة المعتقل الشيخ موسى هلال إلى (محاكمة عسكرية)، سيرة طويلة من الأحداث المشابهة في السياسة السودانية، حيث تقول وزارة الدفاع إن الموقوف بتهمة الخروج على الدولة رفض سياستها المنادية بجمع السلاح، واتخذ مواقف سياسية وأمنية معادية للدولة، وفي البال أن الرجل جندي في قوات حرس الحدود الرسمية وهو ما يعني خضوعه للأوامر والقوانين العسكرية.
يحتشد التاريخ السياسي السوداني بما يطلق عليه المحاكم العسكرية وهو أمر يلتقي بما يسميه البعض الدائرة الشريرة في انتقال الحكم بين المدنيين والعسكر فيما تؤكد الوقائع التاريخية أن معظم المحاكمات العسكرية التي جرت تمت تحت طائلة قانون السعي لإجهاض النظام الدستوري القائم ومحاولة الانقلاب عليه.
كانت أولى المحاكمات العسكرية قد جرت في عهد نظام الفريق عبود وبعد محاكمات استمرت 41 يوماً قضت المحكمة العسكرية بالإعدام رمـيا بالرصاص على البكباشي يعقوب كبيدة، والصاغ عبد البديع علي كرار، واليوزباشي الصادق محمد الحسن والبكباشس علي حامد، اليوزباشي عبد الحميد عبد الماجد، وأصدرت المحاكم العسكرية أيضا أحكاماً بالسجن المؤبد والطرد من الجيش على مجموعة أخرى.
كانت الفترة التي تولى فيها السلطة المشير الراحل جعفر محمد نميري من أكثر الفترات التي عقدت فيها محاكمات عسكرية تحت حجج العمل على قلب النظام ولم يحتج الأمر أكثر من عامين حين بدأت الأوضاع تسوء بين نظام مايو ومعاونيه من الحزب الشيوعي السوداني فيما تم تسميته بـ(أحداث يوليو) والتي نجح فيها الرائد هاشم العطا في استلام السلطة قبل أن يعود نميري مرة أخرى للإمساك بزمام المبادرة وبالطبع العمل على محاكمة المنقلبين عليه من عضوية الحزب الشيوعي السوداني وهي المحاكمات التي شملت مدنيين وعسكريين في الوقت نفسه وانتهت بإعدام العطا وعبد الخالق محجوب والشفيع أحمد محمد وجوزيف قرنق وآخرين.
لم تكن جلبة محاكمات الشجرة لتنتهي إلا وانطلقت محاكمة جديدة لانقلابيين آخرين كانوا هذه المرة بزعامة المقدم حسين حسن حسين حيث سميت بمحاكمات (وادي الحمار) وانتهت مثل المحاكمات الأولى بالإعدام رمياً بالرصاص ويقول الراحل بكري عديل وهو يجتر ذكريات ما حدث، إن من نفذ فيهم حكم الإعدام واجهوا الموت ببسالة ويردف: “بل واجهوا تعليمات الرئيس نميري بتشديد العقوبات بشجاعة منقطعة النظير” فيما تقول بعض الوقائع التاريخية إنه وفي غياب نميري تمت إجازة هذه العقوبات بواسطة نائبه اللواء عمر أحمد الطيب الذي جاء الدور عليه ليقف أيضاً في محاكمة عسكرية مشهودة تداخلت فيها القضايا بين المحلي والإقليمي والدولي.
في بداية حكمها دشنت الإنقاذ نظام (المحاكمات العسكرية) والتي أصدرت احكامها بالإعدام على مدنيين وتظهر هنا قضية (مجدي) الشهيرة والمرتبطة بتهمة امتلاك عملات أجنبية، فيما تبقى قضية الحكم بالإعدام على ضباط حركة 28 رمضان الانقلابية هي الأشهر، وما تزال مآلاتها وأسئلتها باقية حتى الآن.
ولا يختتم المشهد بانتهاء حركة 28 رمضان الانقلابية، حيث برزت أيضاً حركات أخرى تسعى لتحقيق ذات هدف الانقلاب على السلطة واستلامها مثل ما حدث في المحاولة الانقلابية الأولى التي اتهم فيها عدد من منسوبي حزب المؤتمر الشعبي وعلى رأسهم النائب السابق لرئيس الجمهورية الحاج آدم.
في أغسطس من العام 1999 كانت معركة دستورية عنيفة تدور في البلاد في أعقاب قرار بتحويل متهمين في التفجيرات التي شهدتها الخرطوم لمحاكمتهم أمام محكمة عسكرية وهو الأمر الذي انتهى في آخره بصدور قرار من المحكمة الدستورية برئاسة جلال علي لطفي رئيس المحكمة وعضوية ستة قضاة آخرين, حكما بنقض أمر إحالة تسعة عشر شخصا للمحاكمة أمام محكمة ميدانية عسكرية لاتهامهم في الاشتراك في قضية التفجيرات التي شهدتها الخرطوم ليلة الثلاثين من يونيو العام الماضي.
وقررت المحكمة إحالة أوراق القضية لنائب رئيس هيئة الأركان بإدارة القوات المسلحة لتقديم المتهمين أمام المحكمة العسكرية العادية, ورفضت المحكمة الطلب المقدم من المتهمين لإطلاق سراحهم. بدأت محاكمة المتهمين في أكتوبر الماضي واستمرت حتى وصلت مرحلة الدفاع, إذ تقدمت هيئة الدفاع برئاسة أبيل الير بدعوى دستورية بسبب أن المدعين لا ينتمون إلى القوات المسلحة بل هم مدنيون بما يعد انتهاكا للدستور الذي ينص على حق كل مواطن في محاكمة عادلة وناجزة ذلك ما جرى في العام 1999 لكن في العام 2013 صادق البرلمان السوداني على تعديل في قانون القوات المسلحة للعام 2007 يسمح بمحاكمة مدنيين امام محاكمات عسكرية وهو ما أثار جدلاً كثيفاً بين النواب وقتها واعتبره غازي العتباني تجاوزاً للأساس الفقهي والقانوني في السودان.
وفي العام 2012 جرت قصة محاكمات كتب فصولها هذه المرة المتهمون بتنفيذ انقلاب على السلطة بقيادة الضابط في القوات المسلحة (ود إبراهيم) والمدير السابق لجهاز الأمن والمخابرات الوطني الفريق صلاح عبد الله قوش، وهي المحاكمات التي استمرت لفترة وانتهت في آخر المطاف بإطلاق سراح المتهمين بعد تجريدهم من رتبهم العسكرية وإبعادهم من الخدمة، ومثلت محاكمات متهمي المحاولة الانقلابية في العام 2012 واحدة من أطول المحاكمات في تاريخ البلاد.
هذا ما جرى في بعض تاريخ المحاكمات العسكرية في السودان، استدعاه بالطبع إعلان الحكومة أن محاكمة عسكرية ستعقد لرئيس مجلس الصحوة (موسى هلال) بوصفه عسكرياً حسب تصريحات سابقة لقائد الدعم السريع الفريق حميدتي، وبتأكيد من وزارة الدفاع بقولها إن الموقوف الآن هو أحد ضباط قوات حرس الحدود النظامية ويجب أن ينطبق عليه ما ينطبق على ضباط القوات المسلحة، وأن يخضع لذات القانون الذي يخضعون إليه طالما أنه يحصل على ذات المزايا وفقاً لما تقول معادلة الحق والواجب، لكن رغم ذلك يظل مثول هلال أمام المحكمة قيد النظر، ويرجح محللون احتمالية إلغائه، في إطار الحفاظ على التماسك الوطني، وتحقيق الاستقرار في إقليم دارفور، باعتبار أن (هلال) أحد مكونات تحقيق هذه الغاية.
اليوم التالي.