السودان.. عشرة جنيهات بالتمام والكمال زادها سُوق الدولار.. مَن يدير (اللعبة)؟!

الدولار مُقابل الجنيه في فترة ما بعد قرار رفع العقوبات الأمريكية عن (كاهل) الاقتصاد السوداني؛ أي خلال شهر ونصف الشهر فقط، فمن (محطة) الـ (18) كَسَحَ (قطار) الدولار بسُرعة جُنونية وصولاً إلى (28) جنيهاً للدولار الواحد، وكانت يوم الخميس الثامن عشر من الشهر الجاري، ثم هبط يوم السبت إلى (24) جنيهاً، وكل المؤشرات تؤكد أن سعر الدولار بالسوق المُوازي ليوم غدٍ في (رحم الغيب)، لأنَّ (القِصَّة) تُدار بطريقة أشبه بـ(الطلاسم)!! الأسئلة التي نسعى للحُصُول عن إجابات لها هي: ما الأسباب التي أدّت إلى هذه (الربكة) في سوق الدولار مُؤخّراً؟ وعلى أيِّ أساسٍ يعتمد تُجَّار العُملة في (فرض) الأسعار؟ وكيف يُديرون (عملهم) خُصُوصاً في أوقات (الحملات)؟ وأين ينشط هذا السوق بصورةٍ أكبر، وأخيراً ما هو تحليل (أهل) الاقتصاد لهذه (المسألة)؟!…

هكذا (……) يُدار سُوق الدولار
(أسعد) شَابٌ يعمل مع أحد تُجّار العُملة الكبار ويعرف كل الأسرار، قال لي إنَّ مُهمته ومُهمّة أمثاله تنحصر في تسليم العُملة المحلية لزبائن (الجلاّبة) وهُم في الغالب أصحاب وَكَالات وصَرَّافات. أسعد حكى آخر قصة حدثت له مع الدولار قبل ساعات من حديثه معنا، فقال إنّه وباعتباره وَجهاً غير مَألوفٍ وليس عَليه (شُبهة) استأجر عربة أمجاد عادية (مشوار) وحَمَلَ عُملة محلية في جوال بلاستيك ثُمّ قام بتسليمها للشخص المقصود في مكانه على أن يستلم (الجلابي) قيمتها في الخارج بالدولار، وأكَّد أنّ أغلب (الشغل) في سُوق العُملة يتم بهذه الطريقة، وأنّ مُعظم عمليات التسليم تكون في دبي، السعودية والصين، وأضَافَ أسعد أنّ أكثر من 90% من عمليّات البيع في السوق المُوازي للدولار تتم عبر مرحلتين، حيث تُسلَّم العُملة المحلية في السودان وما يُعادلها بالخارج، ونوَّه إلى أن تجارة الدولار الآن تُدار عبر (قروبات) الواتساب بين كبار (الجلابة) الذين ينشطون في هذا المجال، فهؤلاء بـ (كبسة زر) يُحدِّدون سعر الدولار كل يوم، ويُمارسون تِجارتهم من أماكن بعيدة ومُختلفة، فتارةً تتم الصفقات الكبيرة بـ (كورنيش) النيل في الأمسيات، وتارةً أخرى باستراحات الفنادق والفلل والمطاعم الراقية بالخرطوم باعتبارها مناطق طرفية، وقال إنّ هنالك مُصطلحات تُطلق في عملية البيع والشراء فمثلاً من يود بيع دولار يقول عندي (كبير)، وللدرهم (صغير)، أمّا الريال السعودي فيُعرف بـ (المُغترب).
(إنتَ عارف!!)
عبد المعز أحد (المُشتغِلين) في السُّوق المُوازي للدولار، تحدَّثتُ معه باعتباري مُشترياً أودُّ الحُصُول على عشرة آلاف دولار فقال لي: سنُوفِّر لك أيّ كمية من (البُضاعة) بسعر (28.2) جنيه للدولار الواحد سعر نهائي – كان ذلك نهاية يوم الخميس المُنصرم -، قلتُ له طيِّب لو صَبرت يومين ثلاثة هل مُمكن ينزل؟ فَرَدَّ بثقةٍ تامّةٍ: “والله العظيم بعد (3) ايام ما يبقى بي (30) أكون أنا ما بعرف عُمْلَة”. قلتُ له على أيِّ شيء استند في توقُّعك هذا؟ فأكّد أنّ هذه الأيام تَشهد حملة شَعواء على تُجّار العُملة ما جعل عمليّات البيع والشراء تتم في نطاقٍ ضيِّقٍ جداً، وهذا يؤدي مباشرةً إلى جنون أسعار العملات الأجنبية بالسوق الأسود. وبسؤالي له عن النطاق الضيق، قال: يعني البيع والشراء هذه الأيام يتم عبر المعرفة في أغلب الأحوال. قلتُ له من يُحدِّد السعر؟ فأجابني بسُرعة: (التماسيح)!! طلبتُ منه أن يعرِّفني بهؤلاء التماسيح، فضحك الرجل ضحكة مُجلجلة ثم قال: (إنت عارف وأنا عارف والله عارف)، ثم اكتفى بذلك.
خطأ الحكومة
من خلال جولتي بالسوق العربي وهو المكان الأشهر والأكبر لتجارة العُملة، لَفَتَ نظري خلو البراندات والشوارع من (سِرِّيحة) دولار – ريال الذين كانوا يسدِّون الآفاق في هذه المنطقة بالتّحديد، ذَهبت إلى (دهاليز) بعينها تقع في (أزقة) ضيِّقة غرب فندق أراك فلم أجد شيئاً، استعنتُ بشخص كان يدير (صرافة) شهيرة بشارع الجمهورية، لكنه خرج من السوق بسبب (مُؤامرة) – حسبما قال هو –، سألته عن الزيادة المهولة التي حدثت خلال فترة وجيزة في سعر الدولار، فقال: كل التجار الذين يشتغلون في السوق المُوازي كانوا يتوقّعون أن يمتليء السوق بالدولار بعد قرار رفع العُقُوبات الأمريكية، لكن الذي حدث هو أنّ رفع العُقُوبات لم يمطر (دولارات) من السماء، بل لم تستغل الحكومة هذه الفُرصة لضخ كميات من العُملات الصعبة عقب رفع العُقُوبات ولو من باب (طمأنة) الناس، و(حرق السوق الأسود)، وعندما لم يحدث شيءٌ من ذلك وتأكّد تُجّار العُملة أنّه لا جديد، عادوا لمُمارسة (هوايتهم) المُحبَّبة وهي (دَسّ) الدولارات وتجفيف السوق ثُمّ التحكُّم فيه بفرض هذه الأسعار الجديدة، ونَوَّه مُحدِّثي إلى أنّ أكبر خطأ ارتكبته الحكومة هو تشديد الحملات، فبينما كَانَ الأجدى لها بعد قرار رفع العُقُوبات ضخ كميات كبيرة من النقد الأجنبي عبر بنك السودان المركزي بأيّة وسيلة، لجأت الحكومة إلى تشديد الحملات ما أدَّى الى جُنُون أسعار العُملات بشكلٍ يومي.
رهين شائعات
ولا يجد المُتابع كبير عناء في مُلاحظة أنّ السوق الأسود للدولار يعتمد في أسعاره بشكلٍ (رسمي) على الشائعات والتصريحات التي يطلقها المسؤولون بدليل، الزيادة المهولة التي حدثت في يوم واحد (الخميس)، حيث شهد (7) أسعار هي اُفتتح ذلكم اليوم بسعر (26.2) جنيه وبعد أقلّ من ثلاث ساعات وصل إلى (26.8) ثم (27) فـ(27.5 ) وواصل جنونه في نهاية اليوم، حيث زحف من (27.7) إلى (27.8) وأخير دقَّ ميس الـ(28.2) جنيهاً للدولار الواحد، وحسبما رصد مُتابعون فإنَّ كل هذه الزيادات استندت على تصريحين، الأول لوزير الزراعة، ووالي الخرطوم (الأسبق) عبد الحليم المتعافي والذي حذَّر خلال ورشة من إمكانية وصول الدولار الى (30) جنيهاً اذا سارت الأمور بهذه الوتيرة.
وتزامن ذلك مع خبر ورد في (سودان تربيون) مُلخَّصه أن تُجّاراً يَعملون بالسوق المُوازي رصدوا إقبالاً غير مَعهودٍ لشراء الدولار، وقال أحد التُّجّار: نعم كُنّا نتوقّع زيادة سعر الدولار لكن ليست بهذه السرعة، وأكّد أنّه اليوم – الأربعاء – أي قبل (خميس الـ 7 أسعار) هناك شركة كُبرى اشترت منا مبلغ 200 ألف دولار بسعر 25.5 جنيه.
التاجر (أ. ف) علَّق في حديثه لـ(السوداني) أنهم في صبيحة يوم (الخميس) قرأوا كل التفاصيل الوارد ذكرها عاليه في صُحف نفس اليوم، فبدأت (الربكة) – على حدِّ قوله – وأصبحت الأسعار تتصاعد بشكل جُنُوني لدرجة أننا في نهاية اليوم أوقفنا عملية البيع مُطلقاً حتى (نشوف آخرتا) بداية الأسبوع، ومضى الرجُل يقول إنّ سوق الدولار يُدار بشكلٍ شبه عشوائي، ولذا فهو (رَهينٌ) للشائعات وتصريحات المسؤولين الحاليين، بل حتى السابقين أمثال المتعافي وحمدي.
الطرفان في حيرة!!
ويقول الاقتصادي الأكاديمي د. عبد الحميد إلياس لـ(السوداني)، إنّ تسارُع ارتفاع الدولار في فترةٍ وَجيزةٍ – ظَرف أُسبوعٍ – أمرٌ يدعو للقلق والحِيرة في وقتٍ واحدٍ، ذلك لأنَّ هذه الزيادة أتت في غير المواسم المعروفة وهي على سبيل المثال الأعياد، حيث يحتاج التُّجّار ومُستوردو البضائع إلى العُملة الصعبة، وكذلك مُوسم الحج، حيث يَحمل المسافرون العُملات الأجنبية ليستعينوا بها في المملكة العربية السعودية، وأشار إلياس إلى أنّ ما يحدث الآن كارثة تستحق التأمل من قِبَل الفريق الاقتصادي وكل المسؤولين، مُنوِّهاً إلى أنّ فوضى سُوق الدولار انعكست سَريعاً على السُّوق الذي شهد إحجاماً وإضراباً من قِبل التُّجّار والمُواطنين على حدٍّ سواء، فالتاجر يخشى أن يبيع بضاعته ثم يفشل في شرائها، بينما يعزف المواطن لأنَّ الزيادة خلال يومين فاقت حَدّ المعقول، وكذلك لضيق ذات اليد بالنسبة للكثيرين، واختتم د. عبد الحميد إلياس قائلاً: حتى لو فشلت الحكومة في السيطرة على سُوق الدولار فإنَّ الواجب يُحتِّم عليها تنوير شعبها بما يجري في هذا السوق وخُطتها الآنية والمُستقبلية لوضع الحُلُول والمُعالجات.
أسباب المُشكلة
أخيراً ما هي الأسباب التي قادت إلى جُنُون الدولار في السوق المُوازي؟ الإجابة بحسب الأستاذ بكلية الاقتصاد جامعة الخرطوم عبيد الله محجوب هي: التوسع في السوق المُوازي للعُملة الأجنبية بالسودان، لدرجة أنّه قد لا يسع المجال لحصرها، مُضيفاً في حديثه لـ(السوداني) أنّ المُضاربة أيضاً كانت عَاملاً أساسياً في ما حَدَثَ، خَاصّةً وأنّ هنالك بعض التوقعات برفع الدَّعم وتَحرير سعر الصّرف في المُوازنة الجَديدة، وبالطَبع فَقد أدّت هذه التّوقُّعات المُتشائمة إلى نُدرة العُملة (قلة العرض) وكثرة الطلب، كذلك كان الناس يتوقّعون تدفقات كبيرة للعملة بعد الرفع الجزئي للحصار الاقتصادي ولكن هذا لم يحدث ممّا زاد ثقة الناس في العُملة والمُضاربات، وهذا يتطلب تدخلاً فورياً من قبل الحكومة وفرض رقابة على سُوق النقد، وأشار د. عبيد الله إلى أنّ تدهور القطاع الإنتاجي الزراعي والصناعي جعل الناس يلجأون إلى المُضاربات والسّمسرة في كل المجالات وذلك لتعطُّل عَجلة الإنتاج وبالتّالي أصبَحَ سُوق الصرف أكثر الأسواق نشاطاً.. فالنشاطات الرئيسية المُنتجة، الزراعة أو الصناعة أصبحت غير مُجدية ممّا أدّى لأن يتّجه رأس المال إلى القطاعات غير المُنتجة مثل تجارة الأراضي والعُملة، كما تعلم أغلى أراضٍ في العالم بهذا البلد ويعود إلى المُضاربات نفسها، مُنوِّهاً إلى أنّ النّاس فَضَّلوا اللجوء إلى العُملة الأجنبية كمخزنٍ للقيمة.. فالكثيرون الآن يُفضِّلون أن يحوِّلوا نقودهم إلى دولار، ما تسبّب في زيادة الطلب عليه وتوسع السوق المُوازي، علماً بأنّه في كُل دُول العالم لا يلجأ الناس إلى الحُصُول على دولار إلاّ لأسبابٍ مُحدّدةٍ مثل السفر للخارج وشراء واردات، ولكن عندما يطلب الناس العُملة لحفظ ثروتهم فيها، فهنا تحل الكارثة بالعملة الوطنية ويتهاوى سعرها ويتوسّع سوق الصرف، وتكمن الخطورة الى الناس يتّجهون لما يُسمى بالسوق الأسود..!
ووصف الحملات التي تقوم بها الحكومة بـ(مسكنات الألم) التي يظل معها المرض باقياً في مكانه.

تحقيق : ياسر الكردي
السوداني

Exit mobile version