(إن كانت عين أمريكا لا ترى الدفار فالله يرى)!!!
كانت تلك هي العبارة التي ختم بها عثمان ميرغني مقاله.. قالها بعد أن شرح كيف حُمل في دفار كئيب امتلأ بمجموعة من المحكومين الآخرين إلى سجن أم درمان الذي قضى فيه ليلة واحدة .
ولم تُخيّب السفارة الأمريكية بالخرطوم رجاء عثمان، فقد عجّلت بإرسال بعض قياداتها للاطمئنان على عثمان وهل كان الرجل محتاجاً أصلاً لاستجداء أمريكا وقد ظلّت منذ سنوات قريبة منه تغمره بعطفها وحنانها بل بتذاكر السفر الفخيمة إلى واشنطون التي كتب عثمان قبل سنوات وهو يحج إليها (بين طيات السحاب) متغزِّلاً فيها وفي البنتاجون في وقت كانت طائراتها تُمطر بغداد بوابل من حِممها وصواريخها التي أطاحت صقر العرب صدام حسين لتسلِّم أرض الرافدين لحلفائها الإيرانيين تحت ظلال فقه التقية لبناء إمبراطورية الفرس الجديدة؟!
لولا هذه العبارة التي استبكى بها عثمان محبوبته أمريكا دون غيرها من العالمين لربما سكت عن الرد عليه سيما وأني قد طالبتُ قبل أيام، في حضور رئيس الوزراء بكري حسن صالح من داخل البرلمان بإطلاق يد الصحافة لممارسة الرقابة على السلطة التنفيذية ولمحاربة الفساد مع إعمال القضاء الناجز، لكن عبارة عثمان الشاكية الباكية لأمريكا هي التي دفعتني لكتابة هذا المقال، فقد كشفت السر الذي انطوى عليه وهو يُثير تلك الضجة التي تمخَّضت عن هدف واحد هو سدرة منتهى طموحات وآمال الرجل وهو ينسج خيوط قصته المثيرة بما فيها ذلك (الدفار) العجيب الذي يمثّل قمة العقدة الدرامية في مسرحية سجن الليلة الواحدة.
ظللتُ أكتب عن ظاهرة (الخاتِنة غير المختونة) التي عبّر عنها شعبنا المعلم بعبارة ساخرة لا أستطيع نشرها هنا، تأدُّباً.
فكما قلت فقد أفصح عثمان ميرغني عن ما قصده بالمسرحية التي أحدثها مؤخراً بإصراره على السجن بدلاً من القبول بالحكم الأول المتمثل في الغرامة الخفيفة البالغة (عشرة آلاف جنيه) واستئناف الحكم إن لم يرض به، ولو على سبيل الاحترام للقضاء السوداني الذي ظل عثمان طوال السنوات الماضية يكتب منافحاً عن عدالته ونزاهته جراء إنصافه له في مرات سابقات، ولكن متى كان المطففون يستقيمون في أحكامهم ويخرجون من خصلة تطفيف المكيال والميزان في سلوكهم المهني والأخلاقي؟!
بربّكم هل تستحق تلك الليلة اليتيمة في سجن أم درمان كل تلك المسرحية المصورة للسلاسل والفم المكمّم في صدر الصفحة الأولى من صحيفة عثمان؟!
لقد قضى يوسف لبس، على سبيل المثال لا الحصر، 12 سنة في سجون (الإنقاذ) ولم ينبس ببنت شفة، ولم يُحدِث ذرة من تلك الجلبة وتلك الضوضاء، لأن يوسف لبس كان يصدُر عن مبادئ وقضية ودين نذر له حياته لا عن لعاعة دنيا وتهريج وضجيج وبكاء وعويل واستنجاد بالأمريكان حول (نضال) رخيص أراق به آخر قطرة من ماء كرامته التي (دلقها) تحت أقدام الأمريكان الجاهزين على الدوام لتقديم الدعم والمساندة بكل الأنواع والأشكال.
(إن كانت عين أمريكا لا ترى فالله يرى) !
لقد رأت عين أمريكا التي لم تغمض عن النظر إليك يا أستاذ منذ أن تعرفت عليك، ولكن ماذا كان عثمان يريد من أمريكا وهي تنظر إلى محنته في ذلك الدفار بالإضافة إلى حمايته وغمره بحبها وحنانها والغضب لما أصابه من أذى؟ لا أظن الإجابة تحتاج إلى كثير اجتهاد، فإذا كانت أمريكا قد أخطأت برفعها العقوبات المفروضة على السودان فما أقل من أن تحجم عن رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وهل من إرهاب عند عثمان وزمرته أكبر من ذلك الذي مورِس عليه في ذلك الدفار البائس؟!
مضى عثمان في استجداء عطف الحبيبة بقلب كسير حكى به عن تلك الرحلة الكئيبة التي أغرقته بالعرَق والدموع في ذلك الدفار التاريخي والتي رافقه خلالها بعض المحكومين فقد قال عثمان: (والله العظيم ثلاثاً لو كانوا بعض قطيع من الخراف لخشي صاحبها أن تموت اختناقاً إن لم يكن كآبة وحسرة)! .. إذن فإنه الإرهاب بعينه يمشي على أربع عجلات تحمل ذلك الدفار المرعب.
لكن متى كان ممثلو أمريكا في السودان يا رجل محتاجين لكل ذلك البكاء و(الجعير) لكي يستجيبوا لشكواك و(جرستك) وليدبجوا تقاريرهم لوزارة الخارجية في واشنطون ومتى كان صديقك القائم بالأعمال الأمريكي يا عثمان ينتظر حتى تمطره بكل هذه الدموع حتى يرى مأساة الدفار وهل كان محتاجاً لكل هذه الإيمان المغلظة: (والله العظيم ثلاثاً) المبذولة بين يديه لكي يصدّقك ويتفضّل عليك بزيارة في منزلك أو في المكتب كما ظل يفعل على الدوام؟!
إذن فقد انكشف المستور من تلك الحبكة الدرامية البديعة: (إن كانت عين أمريكا لا ترى الدفار فالله يرى)!.. لا شكوى للشعب السوداني الذي يشتري صحيفته ويقرأ عموده ويحس بأوجاعه إنما لجهة واحدة ساوَى بينها وبين الله تعالى أو كاد، فماما أمريكا هي التي توقع العقوبات وتُصدِر قوائم الدول الراعية للإرهاب.
ظل ذلك دأبهم من قديم.. هل نسيتم قرائي الكرام ما فعلته فتاة (هوس الفضيلة) التي تكتب في صحيفة عثمان ميرغني حين شكتنا إلى مجلس حقوق الإنسان بسويسرا؟
كانت تلك المرأة قد تهكّمت وسخرت من الصلاة والمصلين وقالت: (هل العقول التي تحمل هماً كبيراً بشأن تربية الأفراد وتعليمهم الصلاة… هل بإمكانها بناء دولة عصرية كانت أو حجرية)؟! وعندما تصدَّيت للرد، بالكتابة وليس بالرصاص، على تخرّصاتها المُستخِفّة بدين الله وبشعائره وبمشاعر المسلمين، شكتني إلى مجلس حقوق الإنسان بجنيف ولم تنس أن تكتب على سبيل الكيد السياسي بأنني قريب الرئيس عمر البشير، فما كان من مجلس حقوق الإنسان إلا أن تلقّف شكواها ليُصدر بياناً متضمناً اسم الرئيس عمر البشير باعتباره قريبي حيث وردت العبارة التالية في تقريره الغريب : Editor of EIsayha Newspaper who is also a relative of President Omer AlBashir مع إغفال اسمي أنا الكاتب.
في تلك الأيام التي شدّت فيها فتاة (هوس الفضيلة) الرحال إلى إوروبا البعيدة لا لتشكوني إنما لتشكو قريبي عمر البشير، لأنني كتبتُ منتقداً مقالها، كانت المعركة محتدمة لتعويق رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان.
إذن فإن المعركة واحدة، ومن هنا يمكن فهم الدراما والضجة الجديدة التي أشعلوها في قضية (الدفار) والليلة الواحدة في سجن أم درمان سيما وأن عثمان ميرغني يعلم أن ملف حقوق الإنسان مُدرج في مطلوبات أمريكا لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
ماذا أقول غير: إذا لم تستح فافعل ما شئت.
الطيب مصطفى
الصيحة