أولئك الأشخاص، كانوا يتحدثون عن أنفسهم بلا إعجاب، يضعون الحقائق بلا تجميل، أرادوا أن يطلعونا على تجربتهم في كيفية “الحصول على المعلومات في مجال مكافحة الفساد”، فقالوا إن بلادهم جاءت “عن استحقاق” في المرتبة الرابعة والعشرين عالمياً من حيث جودة المعلومات..
إذاً لماذا وجهوا لنا الدعوة إلى برلين للاطلاع على تجربتهم وهم ليسوا من الدول الخمس المتفوقة في هذا المجال؟ كانت إجابتهم أنها جزء من الشفافية التي يحاولون الوصول إليها، ينقلون ما تعلموه إلى الآخرين.
رحلة في برلين “الباردة” امتدت لستة أيام للتعرف على تجربة جديرة ليس بالإطلاع فحسب، إنما بالتعمق والتأمل والمقارنة، استمعنا فيها لمختلف القطاعات الحكومية والعدليّة ومنظمات المجتمع المدني والإعلام، ليُترك لنا التقييم بعد ذلك.
وإن لم يكن القصد المباشر من الزيارة، عقد مقارنة بين مستوى تقديم المعلومات في مجال مكافحة الفساد بين الخرطوم وبرلين، إلا أن الوفد السوداني لم يفوت الفرصة..!
الدعوة التي قدمتها وتكفلت بها مؤسسة فريدريش آيبرت بالخرطوم، لزيارة برلين للوقوف على هذه التجربة، وجهت إلى المحامي العام لجمهورية السودان صلاح عبد الله، نائب المراجع العام د.محمد الحافظ، ممثل ديوان الحسبة والمظالم جمعة الوكيل، قاضي المحكمة العليا مفيدة محمد، نائب عميد كلية القانون بجامعة الخرطوم د.أحمد عبد القادر، مدير المركز القومي للسلام والتنمية د.الواثق البرير، ومن الإعلام رئيس تحرير التيار عثمان ميرغني وشخصي.
من حق أي أحد في ألمانيا، سواء كان مواطناً ألمانياً أو يحمل جنسية أخرى، أن يتقدم عبر مواقع إلكترونية محددة بطلب الحصول على معلومة معينة بمقابل مادي، يُستثنى منه الصحفيون في عدد من الولايات الألمانية.
ولأن سبب زيارتنا إلى برلين هو الإطلاع على هذا القانون من حيث تشريعه ومدى الالتزام في تطبيقه، وفي كيفية إسهامه في مجال مكافحة الفساد، بدا الأمر شيقاً ومثيراً خاصة أن جهات حكومية وعدلية وبرلمانية تعمل على تقديم المعلومات وتراقبها منظمات المجتمع المدني والإعلام، والذي كان لا يتوقف عن انتقاد القانون والمشرفين عليه.
إلا أن الأمر اصطدم منذ بدايته بمعلومة أولى قللت من الإثارة وخفضت مستوى التشويق.
استثناءات مشتركة
هناك في مباني وزارة الداخلية، كانت أولى الزيارات حول الموضوع، كنا نتحدث مع رئيس قسم الدستور والشؤون القانونية بوزارة الداخلية فون كنبلوخ، الذي أكد أنه من حق المواطن أن يوجه أي سؤال للحكومة والتي يلزمها القانون بتوفيرالإجابة له، مؤكداً أن حرية الحصول على المعلومة غير محدودة رغم أن الحكومة، أي حكومة كانت، تحب العمل في أجواء آمنة، ومع هذا سنت القانون قبل 12 عاماً.
ويقول كنبلوخ “يطلب منا الصحفيون الحصول على ملفات وقوانين ثم يكتبون بعد ذلك مقالاً لا يكون مشوقاً، يرفقونه عادة بانتقاد لاذع للحكومة”
الرجل الذي كان يتحدث عن ثقة، جلست بجواره، مسؤولة قانون الإجراءات الإدارية والأحوال المدنية، سابين سوروين، والتي قالت إن هناك استثناءات في القانون.
طلبنا منها أن تذكر لنا الاستثناءات، فكانت المفاجأة..!
قالت: المسائل المتعلقة بالأمن القومي، وهي عبارة كثيراً ما تتردد هنا في الخرطوم، المجال الأمني، والمعلومات عن الأجهزة الأمنية والاستخبارية والتي لا يحق للمواطن الحصول عليها، وأيضاً الأمن الداخلي والخارجي، شؤون الأفراد الخاصة، العلاقات مع الدول الأخرى، المعلومات عن الرقابة المالية، وأيضاً المتعلقة بقضايا مازالت في القضاء، المفاوضات الدولية، بل والمفاوضات داخل الإدارات، الكشف عن الوثائق السرية، العقود التجارية والكشف عن أسرار الشركات، ونشر المعلومات الضريبية.
أما الأخيرة المتعلقة بنشر المعلومة الضريبية، قالت سوروين إنها متاحة في فنلندا ودول أخرى وهو ما تسعى إليه ألمانيا حالياً.
يا للهول، كل هذه استثناءات في القانون؟! إذاً ما هي المعلومات المتاحة التي يرغب المواطنون الحصول عليها، أو تلك التي يسعى لمعرفتها الصحفيون وتساعدهم على كشف الفساد؟!
هي إجابة ستتضح لاحقاً بعد الالتقاء بإدارات مختلفة، لكن ما أكده المسؤولون بوزارة الداخلية أن سرعة تقديم المعلومة تتراوح من يوم حتى شهر كأقصى موعد للحصول عليها، وهو أمر جعل أحد ممثلي الوفد السوداني يُعلق بالقول “نحن كذلك نأخذ وقتاً في تقديم المعلومة من يوم إلى شهر”، ليتبعه آخر “الاستثناءات الموجودة في ألمانيا أكثر من الموجودة في السودان”..!
الشفافية والسودان
ونحن داخل منظمة فريدريش آيبرت، كنا مهتمين بلقاء مسؤول للحصول على المعلومات في مجال مكافحة الفساد بمنظمة الشفافية الدولية كوخين بوميل، فالمنظمة تضع السودان دائماً في ذيل القائمة سنوياً..
الرجل كان فرحاً أنه التقى وفداً متنوعاً من السودان وبدأ حديثه بالتأكيد إن مبادئهم في القياس ثابتة لا تتجزأ ولا تختلف من دولة إلى أخرى ولا تستهدف دولاً بعينها، وقال إن قياسهم لمدى الشفافية وعمل الحكومة على مكافحة الفساد يتم على معايير محددة حيث كشف أنهم اختاروا 13 منظمة موجودة في السودان لها علاقة باقتصاد البلد مشيراً إلى مصادر ومعاهد تعمل على تحليل الأوضاع الاقتصادية في السودان بشكل علمي منذ سنوات..
بوميل تحدث كثيراً عن منظمتهم التي تكونت بصورة طوعية مؤكداً أن الحاجة تتمثل دائماً في وجود صحفيين قادرين على عكس الأوضاع الحقيقية في جميع الدول.
وبكل شفافية وضع الرجل أمامنا ورقة بها المنظمات الثلاثة عشرة المعنية بالشفافية والفساد في السودان.
هامبورغ.. الأفضل ولكن..!
ولأن سبب الحضور إلى برلين أيضاً، كان لمعرفة إن كان الحصول على المعلومات أسهم في الحد من الفساد وكشفه أمام الإعلام والرأي العام، التقينا بمسؤول في معهد البحوث الألمانية بولاية هامبورغ والتي تعد الأولى في ألمانيا من حيث تقديم المعلومات والشفافية، فتحدث بشفافية عن القانون مشيراً إلى أنه لا يتيح مثلاً مراقبة الحصول على الرشاوي، وسبق أنه لم ينشر المعلومات المتعلقة بتفاصيل الانتخابات الألمانية، ومع ذلك فاجأنا المسؤول حينما طلبنا منه أن يكشف لنا القضايا التي فُضحت في الإعلام وأسهم فيها هذا القانون.
إجابته جعلتنا نتوقف ونتقصى عنها أكثر: ” المواطنون في ألمانيا لا يظنون بأن الإدارات الحكومية فاسدة، كما أن موضوع الفساد لا يشغل بال الصحفيين بالدرجة الأولى لأن أولوياتهم تنصب على مواضيع أخرى”.
التقليل من شأن الفساد في ألمانيا واتهام الصحفيين أنهم لا يركزون عليه، جعلنا نتشوق للقاء صحفيين يتحدثون حول الموضوع، هل صحيح أنهم لا يكترثون لمواضيع الفساد ويشغلون صحفهم بمواضيع أخرى؟ وإن كان الأمر كذلك، لماذا هذا العدد من منظمات المجتمع المدني المعنية بالشفافية والفساد؟ بل ولماذا هذه الرحلة التعليمية من الأساس؟
إجابات مثيرة قدمها الصحفي بمجلة دير شبيغل الألمانية، نطلع عليها في الحلقة القادمة، بالإضافة إلى إفادات من مؤسسات أخرى مستقلة وحكومية وبرلمانية.
برلين: لينا يعقوب
السوداني