بالطبع لا يمكن قياس حجم الأضرار التي لحقت بالسودان خلال العشرين عاماً الماضية التي عاقبته فيها الولايات المتحدة الأمريكية بعقوبات اقتصادية جائرة وظالمة ومجحفة، فأقسى ما في مثل هذه العقوبات أنها موجهة في الأساس لتدمير شعب وإنهاك دولة وجعلها تتهاوى وتتداعى كبناء طين رخو اجتاحه سيل جارف،
لكن السودان صمد عشرين سنة في وجه أعتى قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية في العالم، لم تكتف بعقوباتها، بل وجهت ضربات صاروخية جوية حاولت من خلالها إخافة السودان وترويضه وجعله ضمن النعاج التي تسير في اتجاه الحظيرة الأمريكية.
وكان يمكن لهذه العقوبات أن تعجِّل بالفعل بانهيار السودان في حال تأثيرها في الاقتصاد الوطني حتى ينهار هو أولاً، لكن عَظْمَ الاقتصاد السوداني كان قوياً وإرادة السودانيين كانت أقوى من أن تنكسر، وقفت بلادنا في مواجهة العاصفة الكاسحة عشرين سنة حسوماً، فرضت عليها تسويات مذلة فلم تقبل، تمت مساومتها على بيع مواقفها فلم تفعل، وكانت الغطرسة الأمريكية ترفض الحوار المباشر وتريد مكانه إذعاناً وتلبيةً كاملةً لمراداتها السياسية، وظل موقف السودان ثابتاً وواضحاً.
وعندما تلاقت المواقف بين الخرطوم وواشنطون في رفض الإرهاب والجريمة العابرة للقارات وغسل الأموال، توفرت فرصة ملائمة للطرفين السوداني الأمريكي للتعاون معاً في قضية تقض مضاجع كل دول العالم، لم تكن مسألة ثنائية بين البلدين، كانت هماً عالمياً وسعياً كونياً لمعالجة ملف الإرهاب والحد من خطورته، فرغم وجود السودان في القائمة الأمريكية للدول الداعمة للإرهاب، لم تجد واشنطون بداً من الاستماع لوجهة النظر السودانية ثم التعاون معاً من أجل مكافحة الإرهاب، ووجدت الأجهزة الاستخبارية الأمريكية بكل قدراتها وتقدمها التقني وحجمها الضخم، أن ما يتوفر لدى السودان من معلومات وحرص وقدرة على محاربة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود، لا يتوفر في الدول الأخرى في الفضاءين العربي والإفريقي، بل في الفضاء العالمي الواسع. وظلت الأبواب موصدة رغم ذلك للحوار المباشر، لأن جماعات الضغط والدوائر المعادية للسودان والناشطين من ذوي المواقف الحادة والمتشنجة يضغطون على الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وأثروا في مواقفها السياسية، وكفوا أياديها عن أن تلتقي مع الأيادي السودانية للتفاهم والحوار.
ومرت مرحلة التفاوض لحل قضية جنوب السودان دون أن يتحرك الملف، وتم توقيع اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا ولم يلفح الطرفان في ابتدار حوار مباشر رغم وعود واشنطون، ثم جاءت اتفاقية أبوجا الخاصة بدارفور فلم يحدث أيضاً شيء وحنثت واشنطون بوعدها، ثم جاءت فترة الاستفتاء على مصير جنوب السودان، ولم تحرك واشنطون ساكناً لتحقيق مطلوبات كانت لازمة، وكانت تتذرع بذرائع واهية وحجج ضعيفة فيها أنواع مختلفة من الابتزاز السياسي والضغوط غير المبررة.
وفي ظل الإدارة الديمقراطية في عهد الرئيس السابق باراك أوباما استمعت واشنطون لصوت عقلها، وأعلن عن حوار بين الجانبين في ٢٠١٤م، وكانت قبله توجد محاولات محدودة لم تفض إلى نتيجة، وعندها حددت ملامح الحوار في أكتوبر ٢٠١٥م ووضعت خريطة طريق وحددت خمسة مسارات سار عليها الحوار بين مؤسسات الدولة تحت الإشراف والقيادة المباشرة من السيد رئيس الجمهورية ويقود فريق التفاوض السيد وزير الخارجية عبر لجنة عالية المستوى، مقابل الجانب الأمريكي الذي يمثل الإدارة ومؤسسات الحكم هناك، وانتهى الحوار بالقرار التاريخي نهاية عام ٢٠١٦م في الأسابيع الأخيرة من حكم باراك أوباما القاضي بإلغاء الأمرين التنفيذيين المتعلقين بالعقوبات الاقتصادية، فتم تخفيف العقوبات وإعطاء مهلة ستة أشهر لاختبار مدى التزام السودان بتنفيذ المسارات الخمسة، ومن ثم يتم الرفع النهائي.
في يوليو الماضي انتهت المهلة المحددة، وقرر الرئيس الأمريكي الجمهوري دونالد ترامب إعطاء مهلة أخرى تنتهي في الثاني عشر من أكتوبر الحالي، لكن المهم في الأمر أن القرار الرئاسي في يوليو أشار مباشرة إلى عدم الحاجة لأية تقارير إضافية في المسارات الخمسة، وهذا يعني أن كل ما يتعلق بالقضايا محل الحوار قد استوفت نتائجها ونقاشاتها واستنفدت بحثها.
ثم جاءت زيارة وزير الخارجية البروف إبراهيم غندور أخيراً إلى واشنطون، وتم فيها استعراض كل مراحل الحوار، ثم النظر والنقاش حول مستقبل العلاقات بين البلدين، وأعطيت من الجانب الأمريكي الإشارات الكافية لرفع العقوبات في موعدها. واليوم يُزاح عن كاهل السودانيين جور وأعباء وظلم فادح استمر لعشرين سنة، كان له تأثيره في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والطبية والتعليمية والصناعية والمعيشية والزراعية وغيرها، وسيقبل السودان على تنفيذ مشروعاته النهضوية وتحقيق تطلعات الشعب الصابر، وسرعة الاندماج مرة أخرى في منظومة الاقتصاد العالمي.
لقد صبرنا وصمدنا طويلاً، وما شعب جابه المر كما جابه شعبنا، وآن لنا أن ننطلق.
الصادق الرزيقي
صحيفة الإنتباهة