بين عمر نقد وشهيد الشرطة

أترككم مع هذه الخواطر الرائعة التي أتحفنا بها الأستاذ عمر نقد المحامي، حول محاكمة شهيد الشرطة لعلها تفيد أولئك السفهاء الغرباء على خلق أهل السودان ممن اقتحموا قاعة المحكمة ليهتفوا ويصرخوا تعاطفاً مع القاتل واستفزازاً لروح الشرطي القتيل حسام وأمه الثكلى.

أخي الطيب مصطفى

أعجبتني زفرتك الحرى يوم الخميس الماضي وأنت تتحدث عن الشرطي الشهيد حسام الذي لا بواكي له في أجهزة الإعلام التي انحازت إلى الطرف الآخر، وأقول إن زفرتكم كانت صيحة حق أثارت في نفسي مشاعر شتى وذكريات قديمة.

كنتُ في مبتدأ حياتي العملية قاضياً بمحكمة الدويم وحكمتُ في محكمة كبرى على فتى قتل شاباً في مثل سنه بالإعدام، وبعد أن خرج المُدان القاتل من القاعة دخلت عليَّ امرأة عجوز دامعة العينين، وهي تسألني عن لماذا حكمتَ على ولدها بالإعدام فقلتُ لها هل تعرفين القتيل، فقالت نعم فقلت لها أليست له أم مثلك لا تزال تبكي ابنها الشاب؟

بُهتت المرأة وصمتتْ وخرجت بدون أن تجيب، لكني لما أويت إلى فراشي تلك الليلة لمتُ نفسي وسألتها: لماذا أغلظت على تلك المرأة.. أما كان بإمكاني أن أقول لها إن الحكم لس نهائياً وأجبر بخاطرها قليلاً؟

كان ذلك حديث النفس حين تشفّ عن بشريتي وتمور بعد ثوانٍ وأن تقول إن الحق أحق أن يتبع وأحق أن يُقال.. في ذلك الزمان كُنا نطبق قانون عقوبات السودان لسنة 1974 المأخوذ عن قانون 1925م المأخوذ من القانون الهندي والسوابق الإنجليزية، ولم يكن القانون ينص على عفو ولا دية حتى جاء قانون 1983م، ومن بعده قانون 1991م المأخوذ من الشريعة الإسلامية، والذي يجيز عفو أولياء الدم إن قبِلوا الدية لو لم يقبلوها.

أمر العفو والدية يقود ذاكرتي إلى العام 1989م، حيث كنت أحضر مؤتمر المحامين العرب بدمشق اخترت في ذلك المؤتمر لجنة توحيد التشريعات العربية وقدمت ورقة قلت فيها إن توحيد التشريعات العربية يتطلب الاتفاق على مرجعيتها، وليس لدينا مرجعية مشتركة غير الشريعة الإسلامية.. سخر مني الإخوة العراقيون وتهكموا على تطبيقنا للشريعة الإسلامية في السودان، فقلت لهم تعرفون أن عدي صدام حسين قتل جندياً من حرس القصر بضربة بالعصا على رأسه أمام أعين أسرته فقبضوا عليه لأيام قلائل، ولكن ذوي القتيل استعطفوا والده الرئيس صدام حسين ليطلق سراحه فأخلى سبيله.

قلت لهم إن ما فعلتموه في العراق صحيح وفقاً للشريعة الإسلامية فقد عفا أولياء الدم طوعاً أو كرهاً بمقابل أو بغير مقابل – الله أعلم – ولكن ذلك ليس صحيحاً وفقاً لقانونكم الجزائي الذي يفرض عقوبة الإعدام في القتل العمد ولا يعرف العفو أو الدية، فكيف فعلتم ذلك وأنتم تسخرون من تطبيق الشريعة الإسلامية؟! وقلت لهم كذلك إنه لو كنتم تطبقون الشريعة لقلتم للجميع إن أولياء الدم نزلوا عن حقهم في القصاص.

صمت الرفاق من حزب البعث العراقي، ولم يعلقوا وحين خرجت قادني أحد الإخوة المحامين السوريين إلى مذيعة التلفزيون وهو يقول لي إنهم لا يستطيعون الحديث عن صدام سواء داخل العراق أو خارجها فهم يخافون حتى من بعضهم البعض!

لو ترك المناصرون لعاصم الأمر لأسرته تتصل بذوي الشرطي الشهيد وتعزيهم وتواسيهم فيما جرى وتدخل الأجاويد من أهل السودان لكان أمر الحكم مختلفاً.

أنا لا أعرف تفاصيل القضية وبيناتها لكني أعتقد أن الأمر لا يزال فيه سعة ومجال قبل أن يؤيد الحكم ويقع الفأس على الرأس.

ومسألة أهل السودان الأجاويد هذه تذكرني ما رواه لي شيخ عظيم من مشايخ العرب هو الشيخ الزين آدم الزين ناظر اللحويين بالقضارف ففي العام 1984م قام رجل يدعى رحمة الله بقتل ابن شيخ الزين وزوجته وسارت القضية في درب العدالة الطويل وتدخل السياسيون والأعيان طوال سبع سنوات ولم ينجحوا حتى أعدم القاتل.. وسألت الشيخ الزين وكنتُ محاميه لماذا لم يستجب للصلح فقال لي لو أنهم جاؤونا منذ بداية الحادث معتذرين ومواسين لكان الأمر مختلفاً لكنهم استفزونا وكلفوا المحامين للدفاع عن ابنهم منذ يوم الحادث، وأضاف شيخ الزين إن العفو عندهم يعتبر من السوالف والأعراف التي يستمسكون بها، وروى لي هذه القصة:

قال: إن رجلاً قتل آخر، وفي اليوم التالي وقبل رفع الفراش جاء أهل القاتل يركبون لورياً ومعهم المتهم أنزلوه أمام صيوان العزاء مقيداً وبعد أن قدموا مواساتهم قالوا لأهل القتيل هذا هو قاتل ابنكم افعلوا به ما تشاؤون، أو سلموه للحكومة، فما كان من ذوي القتيل إلا أن قالوا لهم: أنتم لستم بأفضل منا ولا أكرم خذوا قاتلكم معكم فقد عفونا.. قال لي الشيخ لو أنهم فعلوا ما فعل أولئك لكُنا عفونا عن ابنهم ولكن آثروا الاستفزاز، فهل من استفزاز لذوي الشرطي الشهيد حسام الذي قُتل بدم بارد أكثر من تلك الهتافات أمام والدته الثكلى وأبيه المكلوم؟!

أليس في القوم رجل رشيد؟!

عمر نقد المحامي

تعقيب

الأستاذ عمر عبد الله الشيخ الذي عُرف باسم عمر نقد عرك مهنة القانون وعركته منذ شبابه الباكر وخاض غمارها في سلك القضاء ثم المحاماة، وتحتشد سيرته بذكريات وتجارب ومرافعات تجعل من يجالسه مبهوراً بثراء تلك الشخصية الفريدة، وكم أرجو أن يكتب ما يختزنه من ذكريات وتجارب ستكون ذات فائدة عظيمة لأهل القانون حتى لا تضيع كما ضاعت تجارب الأفذاذ من أمثاله، فلكَم حزنت لفراق شقيق روحي الأستاذ المثال المتجرّد من حظوظ النفس وسفسافها المحامي فتحي خليل الذي غادرنا دون وداع ودون أن يخلد ذكراه ببعض رحيقه وعبيره الذي لا يُدرك كنهه إلا من عايشه ونهل من معينه.

أني لأرجو من الأخ عمر أن يُسطر كتاباً يحكي فيه بعضاً مما ظل يُتحفنا به من قصص ونوادر كلما التقينا به.

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة

Exit mobile version