* كان من المفترض ان يعترض النظام الحاكم أو يبدى غضبه، أو على الأقل عدم رضائه (ولو من باب التظاهر) على إبقاء السودان تحت وصاية مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة، وتمديد ولاية المبعوث الدولى المستقل لمدة عام آخر ينتهى فى شهر سبتمبر القادم، ولكنه على العكس من ذلك، فلقد أبدى سعادته بالقرار ورحب به، وأعلن استعداده الكامل للتعاون مع الخبير الدولى (أريستيد نونونسى) وهو من دولة (بنين) ..!!
* وهذه هى المرة الثالثة التى يتم فيها تجديد ولاية السيد (نونونسى) على السودان، حيث تم تعيينه كمبعوث لحقوق الانسان فى السودان فى عام 2014، بعد اعتراض حكومة السودان على الإيرلندى (توماس إدوارد) الذى سبق له العمل فى السودان كمدرس، وطاف معظم اجزائه، ويكاد يعرف كل شئ عنه، وله ثلاثة كتب عن السودان، كما سبق له العمل مستشارا لبعثة الامم المتحدة (يونيميس) مقيماً بمدينة جوبا، عقب توقيع اتفاقية السلام الشامل فى عام 2005، بالاضافة الى عمله كمستشار سياسى للسكرتير العام للأمم المتحدة فى عام 2011 خلال فترة الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان!!
* ويبدو أن إعتراض الحكومة السودانية على السيد (إدوارد) كان ناجما من خبرته فى الشأن السودانى، ومعرفته بكافة ما يحدث فيه، فهى لا تريد أن يكون شخصا مثل هذا، فضلا عن كونه إيرلنديا (وليس من أفريقيا أو المنطقة العربية) مراقبا لحقوق الانسان فى السودان وما ترتكبه من انتهاكات جسيمة لها، فأبدت اعتراضها الشديد عليه، مما دعا المجلس لاستبداله بالبنينى (أريستيد نونونسى)، الذى رحبت الحكومة بتمديد ولايته للفترة الثالثة على لسان سفيرها بجنيف (مصطفى عثمان اسماعيل) بدلا من الاحتجاج، فليس هنالك دولة مستقلة ذات سيادة تحترم نفسها تقبل بوصاية أحد عليها كى تكف عن انتهاك حقوق مواطنيها، وهى وصاية إستمرت 24 عاما (منذ عام 1993 ) ولا تزال، حتى ولو تغير بند الوصاية من الرابع الذى يسمح باتخاذ اجراءات اكثر صرامة ضد الحكومات التى تنتهك حقوق الانسان، الى البند العاشر الأقل صرامة فى طبيعة الإجراءات التى يمكن أن تتخذ بناءا عليه!!
* وأصدقكم القول فإننى لم أستغرب سعادة الحكومة السودانية بتمديد بعثة (نونونسى) ــ ويبدو أن السعادة شملته أيضا، فلقد ظل هذا الخبير (المستقل) خلال الاعوام الثلاثة الماضية يكتب تقاريرا إيجابية عن الحكومة السودانية وتقدمها فى مجال حقوق الانسان، ويزينها (ذرا للرماد فى العيون) ببعض الانتقادات البسيطة .. وهو ما فعله هذا العام أيضا، فلقد حمل تقريره الذى تلاه أمام مجلس حقوق الانسان بجنيف فى الايام الماضية، ليس مجرد كلمات إيجابية عن التطور فى مجال حقوق الانسان فى السودان، بل إشادة بما حققته الحكومة السودانية فى هذا المجال، ثم ختمه ببعض السلبيات (بلغة لينة جدا) عن إخفاقات فى مجال حرية التعبير والمضايقات التى يتعرض لها بعض الناشطين السياسيين، والمضايقات فى مجال الحريات الدينية، بدون أن يتعرض للانتهاكات الجسيمة التى ظلت الحكومة السودانية ترتكبها فى كافة مجالات الحياة (من السياسة وحتى المناسبات الاجتماعية)!!
* هذه الانتهاكات يعرفها الكل فهى تحدث فى وضح النهار، ولا تحتاج لمبعوث دولى او محقق ليتوصل الى صحتها، ولا بد أن المبعوث البنينى (الدولى) السيد المبجل (نونونسى) سمع بها، أوأخذ علماً بها من المواطنين السودانيين الكثر الذين إلتقى بهم بعيدا عن أعين ومسامع الحكومة السودانية خلال زياراته للسودان، ولكن للأسف الشديد غيَّب معظمها عن تقريره، وذكر بعضها بكثير من التخفيف والتلطيف، فكيف لا يشيد به مصطفى عثمان اسماعيل، ولا يرحب بقرار تمديد بعثته والتعاون معه، رغم أنه يقدح فى سيادة السودان وسمعته، حتى لو جاء القرار تحت البند العاشر، فهو فى أول الأمر وآخره وصاية على دولة تزعم أنها مستقلة ذات سيادة، وإدانة لها على انتهاك حقوق مواطنيها، وكان من المفترض أن يغضبها ذلك، ويجعل سفيرها فى جنيف يلعن (سنسفيل جدود) مجلس حقوق الانسان، ومن أسسه ومن ينتمى له، بدلا عن الاشادة به، والترحيب بتمديد فترة ولاية مبعوثه عليها!!
* لست حزينا لتقرير المبعوث (الدولى)، سواء كان (محايدا) أو (منحازا) أو (حقيقيا) أو (مزيفا)، أو (مخففا)، فهو مجرد تقرير لن يغير فى الوضع الذى يعيشه المواطن السودانى شيئا، خاصة مع لعبة المصالح التى تحكم العلاقة بين الدول وتأثيرها على القرارات التى تصدرها المؤسسات والمنظمات التى يحكم غالبية الدول التى تُشكل عضويتها حكام فاسدون، ولكننى حزين لحكومة تسعى لتبرئة نفسها من انتهاك حقوق شعبها أو رفع العقوبات عنها، بالتذلل لسادتها أو بتقرير يكتبه عنها (وصى أجنبى)، يسعدها أن تستمر وصايته عليها، بل وتعلن سعادتها على استمرار هذه الوصاية وانتهاك سيادتها والدوس على كرامتها على الملأ بدون حياء او خجل، ثم تستمر فى قمع شعبها وإذلاله وتجويعه وتشريده إنتقاما لهوانها وعجزها أمام الآخرين!!
مناظير – زهير السراج
صحيفة الجريدة