عندما يتحدَّث جواسيس مصر ! (1)

لم تتردد الصحفية المصرية أماني الطويل في دمغ السودان بالدولة الفاشلة، وعزت ذلك إلى فشل النخب السياسية الحاكمة منذ الاستقلال في إدارة التنوع والذي أفضى إلى انفصال الجنوب الذي تعتبره أكبر مظاهر وأدلة الفشل.

أدلت أماني الطويل بذلك القول وبما هو أسوأ وأقبح، من ما سأتناوله في مقال الغد إن شاء الله، عبر حوار في إحدى القنوات الفضائية المصرية (فشت فيه غبينتها وغلبها)، وعبّرت عن غضبها الشديد من انفصال الجنوب، وكأن السودان جزء من بلادها.

نعم ، فإن مصر التي تعتبر الانفصال الذي زلزل كيانها وجعلها تلطم الخدود وتشق الجيوب وتقيم له مناحة كبرى لم يشهد السودان، الذي يفترض أنه بيت العزاء ، معشار معشارها، تعتبر الانفصال، من وجهة نظرها وخطة بلادها الإستراتيجية للسودان الذي تعده من أملاكها الفرعونية، تعتبره فشلاً ذريعاً للدولة السودانية.

أود أولاً أن أسأل هذه الجهلولة: هل كل الدول التي انفصلت عن بعضها فشلت في إدارة التنوع بما فيها تلك التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفيتي أو الاتحاد اليوغسلافي وبما فيها كذلك باكستان وبنغلايش اللتان انفصلتا من الهند أو إريتريا التي غادرت إثيوبيا وغير ذلك كثير؟!

هذه المرأة لم تسأل نفسها وهي تضع يدها على الماء البارد وليس على الماء المغلي جراء الحرب التي ظل السودان يتلظّى في سعيرها منذ الاستقلال، لماذا وقع رئيسها السادات اتفاقية كامب ديفيد التي أغضب بها كل العرب وباع بها قضيتهم المركزية (فلسطين المحتلة).. أليس لوقف الحرب المشتعلة بين مصر ودولة الكيان الصهيوني بكل ما تمخّض عن ذلك من تراجع وانكسارات لا زالت تتوالى على الأمة ونشهد بعض فصولها المحزنة والمخزية هذه الأيام؟! فعل الرئيس السادات ذلك رغم الأموال الضخمة التي بذلها العرب لمصر تقديراً لدورها في مواجهة إسرائيل.

بالمقابل، ما هو الدور الذي قامت به دولتكم طوال سنوات الحرب الطويلة في جنوب السودان لمساعدة الدولة السودانية؟! هل أعانته أم ظلت تتآمر عليه وتتربص به وتستقبل المتمرّد قرنق استقبال الرؤساء لتكيد به إلى السودان الذي تعتبره عدوها الاستراتيجي؟! لقد والله رأيت بعيني رأسي، وأنا مُجنَّد في الدفاع الشعبي، الذخيرة المصرية الفاسدة المدفوعة قيمتها على دائرة المليم من خزانة السودان الخاوية.

مصر بأنانيتها المعروفة تريد للسودان أن يخوض لها حربها في جنوب السودان إلى يوم القيامة حتى لو هلك كل شعبه وانهار اقتصاده وفشلت دولته بدون أن تدفع قرشاً واحدًا بل إنها تتآمر عليه بدلاً من أن تعينه حتى تتحقق إستراتيجيتها في ربوعه.

لا ينتطح عنزان في أن إستراتيجية مصر تتعارض تماماً مع أهداف السودان في التنمية والنهضة، وتعتبر أي تقدّم في مشاريع التنمية يحققه خصماً عليها سيما وأن استراتيجيتها ظلت تتمحور حول النيل الذي يعتبر شريان الحياة بالنسبة لمصر وبالرغم من أن اتفاقية مياه النيل منحت مصر (54) مليار متر مكعب من المياه والتي تساوي ثلاثة أضعاف حصة السودان فإنها ظلت تضع العراقيل أمام استغلال السودان لحصته حتى تتدفّق نحوها بالمجان، ولذلك فإن أي نهضة زراعية للسودان تعتبر من المحظورات التي تسعى إلى منعها بكل الوسائل سراً وعلناً وبالتالي فإن من مصلحة مصر أن يظل السودان موبوءاً بالحروب والإنهاك الاقتصادي حتى تنعم هي بخيراته.

مصر التي ظلت تتعامل مع السودان كملف أمني لا يشغل منصب سفيرها فيه إلا رجل من جهاز الأمن ولا يتوقف رجال ونساء الأمن ومنهم أماني الطويل تحت مختلف الصفات عن التسلل إلى مختلف مرافقه ليزودوا بها مراكز القرار في مصر .

من تُراه يقنع هذه المرأة ورجالات الأمن المصري أن السودان بشكله الحالي لم يصنعه شعب السودان إنما قام المستعمر الإنجليزي (بلصق) الجنوب إليه كشوكة سامة في خاصرته بدون أي حيثيات موضوعية ولن تجدي كذبة إدارة التنوع أو غيرها من الشعارات الفارغة في إدارة مزرعة تضم قططاً وفئراناً كما لن يُفلح أبرع القضاة أو العلماء في تزويج رجل وامرأة يبغض أحدهما الآخر بأكثر مما يبغض الشيطان الرجيم، ولذلك لا غرو في أن يُباح الطلاق بين الزوجين المتشاكسين.

أماني الطويل هذه لا تعلم أن حرب الجنوب بدأت في عام 1955، قبل أن ينال السودان استقلاله وأن الإنجليز هم الذين فصلوه ثقافياً عن الشمال بتأثير من الكنيسة الكاثوليكية عندما منعوا التداخل بين الشعبين الشمالي والجنوبي بإصدارهم قانون المناطق المقفولة:

The closed districts act

ثم وحّدوه سياسياً بعد أن زرعوا بذور الكراهية والبغضاء في نفوس أبناء الجنوب من خلال المدارس التبشيرية التي كانت تصوّر الشمالي في أغلفة بعض كتب المنهج الدراسي سيداً يُلهب ظهر (عبده) الجنوبي بالسوط وبالرغم من بذر الكراهية في نفوس الجنوبيين عقد الإنجليز مؤتمر جوبا عام 1947 والذي اعترف السكرتير الإداري الاستعماري جيمس روبرتسون فيما بعد من خلال كتاب أصدره بأنه زوَّر مخرجاته لتنص على أن الجنوبيين قرروا التوحّد مع الشمال.

الإنجليز لم يوحّدوا الجنوب بالشمال رحمة بالشمال أو بالسودان إنما لأنهم كانوا يعلمون أنه ليس مؤهلاً ليقيم دولة بالنظر إلى أنه لا توجد هوية مشتركة أو انتماء وطني يجمع شتاتهم حوله، وهو ذات الحال الذي عليه الجنوب اليوم، وما الحرب الدائرة بين مكوناته العرقية الآن، خاصة قبيلة الدينكا التي يقودها سلفاكير وقبيلة النوير بقيادة رياك مشار إلا دليلاً ساطعاً على قوة المبررات التي جعلت الإنجليز يلصقون الجنوب بالشمال حتى ولو أصبح عبئاً عليه، وحتى لو أشتعلت الحرب قبل أن يخرج الإنجليز من السودان.

الطيب مصطفى
صحيفة الصيحة

Exit mobile version