أنا في الخرطوم منذ عدة أيام، لظرف عائلي طارئ يتطلب التعامل مع الأطباء، ورغم أنني أعرف معظم الأطباء الكبار في بلادي إما بحكم زمالة الدراسة أو لأن صداقات تربطني بهم )أنصح كل إنسان في الوطن العربي أن يوسع دائرة علاقاته بالأطباء لأنهم الشريحة المهنية الوحيدة التي يتعامل معها الانسان بانتظام منذ عمر دقيقة واحدة إلى سن ما بعد المائة، وأن يعتني بك طبيب تربطك به مودة يريحك نفسيا ويجعلك أكثر قابلية للشفاء مما تشكو منه من علل، وأقول هذا لأننا جميعا نتاج ثقافة »الواسطة«(.
المهم أنه رغم أن علاقات وطيدة تربطني بالأطباء ذوي الشنة والرنة في السودان فإن أصدقاء نصحوني بالتعامل مع طبيب شاب، حتى العرق الذي يفرزه جسمه المنهك من طول »الدوام« فيه رائحة الإنسانية الزكية: يهش في وجوه المرضى، ويحدد أولويات »الكشف« بحسب حالة المرضى في صالة الانتظار، ويجري الكشف على العجوز المتهالك قبل الشاب المتماسك، حتى لو كان ذلك الشاب أول من قاموا بالتسجيل في العيادة الطبية، ويجري اتصالات بالصيدليات لمعرفة ما إذا كان هذا الدواء أو ذاك موجودا لديها، ويودع كبار السن بـ»مع السلامة يا عمي/ يا خالتي«.
وعدت بالذاكرة إلى ذلك اليوم البعيد، عندما وقع أخي عبدالله في قبضة الشرطة، إلى أن انتهى به الأمر محكومًا عليه بالسجن ثلاثة أشهر، ولكن لم تكن هناك أي حالة من الحزن أو الغضب في عائلتنا، بالعكس، كنا فخورين بأن عبدالله دخل السجن رغم أنه ارتكب جناية الاعتداء الجسماني وتسبيب الأذى البسيط لشخص آخر، بل كان جميع من يعرفوننا ولا يعرفوننا فخورين بدخول عبدالله السجن.
وما حدث هو أن شابًا من الجيران كان على سقف بيتهم عندما اصطدم عرضًا بسلك الكهرباء، فصعقه التيار ورماه أرضًا ميتًا، ونقله أهل الحي إلى المستشفى حيث أكد مساعد طبي وفاته )المساعد الطبي ممرض طويل الخبرة ينوب عن الطبيب في علاج الحالات البسيطة( وظل أقارب الشاب الميت وأهل الحي يرابطون في المستشفى قرابة خمس ساعات، في انتظار الطبيب المناوب ليسلمهم شهادة الوفاة. وجاء الطبيب وكان متقنزحا أي متغطرسا فجًّا، وأول ما فعله هو أن صاح في الباكين حول الجثمان: بلاش دوشة اطلعوا بره.. ثم أتبعه بكلام مسيء، ولأن مكانة الطبيب في المجتمع كانت كبيرة، فقد ابتلع الناس الإهانات وطلبوا منه التوقيع على شهادة الوفاة، لكنه قال ان هناك أمرًا عاجلاً ينبغي عليه إنجازه قبل أن يوقع على الشهادة، توسلوا إليه قائلين إن التوقيع لن يستغرق أكثر من خمس ثوان، ولكنه صاح فيهم: امشوا وتعالوا بعدين. تخيل أن تذهب إلى الخياط طالبًا منه أن يخيط لك كفن عزيز لديك فارق الحياة يوم الثلاثاء فيقول لك: تعال يوم الخميس.
هنا فقد أخي عبدالله أعصابه وصفع الدكتور »كفًّا« بقوة 300 فولت على خده فطارت نظارته، ونسي الجميع لبرهة أمر الميت ودوت الأيدي بالتصفيق نكاية بالطبيب الصفيق، وبلهجة حازمة قال أخي للطبيب إن تلك الصفعة مجرد »عربون« لما سيأتي ما لم توقع على شهادة الوفاة فورًا، فقام الطبيب بالمهمة وهو يرتجف مما قد يأتي بعد العربون، وخرج الجميع بالجثمان إلى المقابر، وإثر بلاغ من الطبيب تم اعتقال أخي وانتهى به الأمر إلى السجن ثلاثة أشهر، ولكنه لم يكن يقضي فيه أكثر من بضع دقائق يوميا لأن حراس السجن ورجال الشرطة كانوا قد عرفوا حكايته وتعاطفوا معه، وكان مطلوبًا منه فقط حضور طابور »التمام« الصباحي حيث يتم حصر وعد السجناء، ثم الذهاب إلى حيث يشاء، فيعود إلى البيت )لم يكن يغادره كثيرا كي لا يحرج حراس السجن إذا شاهده الطبيب حرا طليقا(.
وتذكرت أيضا حكاية طفل توفي في مستشفى في مدينة عربية ولم يتمكن أهله من دفنه طوال 3 أيام لأن الطبيب المخول بالتوقيع على شهادة الوفاة في إجازة. هل نفهم من تصرف إدارة المستشفى ذاك أنها ترى أن الموت ممنوع -أستغفر الله- خلال غياب ذلك الطبيب؟ طبعًا لا ولكنها البيروقراطية العرجاء والمركزية التي تجعل حتى أبسط السلطات والصلاحيات في يد فرد: توقيعه هو وحده معتمد لدى البنوك والشرطة والجوازات ولا يجرؤ الآخرون على اتخاذ أي خطوة مهما كانت مهمة وإنسانية خوفًا من عقابه وعتابه الذي قد يبدأ بخفض الدرجة ويصل إلى التفنيش!
زاوية غائمة – جعفـر عبــاس