ظل المجتمع السوداني يفاخر بترابط نسيجه الاجتماعي، وتماسكه بقيمه وأخلاقه المكتسبتين من شريعة السماء والأرض، بيد أن ثمة أشياء غريبة اقتحمت شرائح من طبقات المجتمع السوداني، أخلت بعرفه السائد وأمنه الاجتماعي، بظهور جرائم غريبة على الساحة السودانية، أدخلت الخوف والهلع وأفرزت تأثراً نفسياً بالغاً، ولم يعد الجميع ينعم بالسكينة، خوفاً من مجهول قد يصيبه أو أسرته أو حاشيته، وباتت أخبار الجرائم المرعبة من (اغتصاب للأطفال والتحرش الجنسي والاحتيال وإهانة الآباء والدجل والشعوذة والأزياء الفاضحة التي اقتحمت السوق» تعتلي جبين صحف الخرطوم.(آخر لحظة) تحاول عبر سلسلة تحقيقات أن تلقي الضوء على الظواهر المجتمعية السالبة التي لحقت بالمجتمع وألقت بظلالها السالبة على أمنه، بل تهدد سلمه وأمنه الاجتماعيين، ولمعرفة أهم الأسباب التيشظ أدت إلى هذا الإنزلاق وماهية الحلول.
سوابق قضائية سنورد عدداً من السوابق القضائية تشير الي بعض الظواهر في المجتمع، وواحدة من تلك الجرائم التي لم تكن لها وجود يذكر بين المجتمع السوداني ظاهرة الاغتصاب، حيث ألقت شرطة سوق ليبيا القبض على سبعة متهمين اغتصبوا وقتلوا طفلة تبلغ من العمر (5) سنوات، وأشعلوا فيها النار، وتعود التفاصيل إلى بلاغ ورد للشرطة باختفاء الطفلة (ر.ع) البالغة من العمر (5) سنوات، من حلة سبالقرب من سجن الهدى بأم درمان، وهرعت شرطة سوق ليبيا بقيادة العميد خالد بن الوليد وعثرت على الطفلة بأحد المنازل المهجورة في المنطقة ملقاة على الأرض، وأشارت التحريات الأولية إلى أن المتهمين وضعوا (حصيراً) تحت رأس الطفلة وأشعلوا فيه النيران، إلا أن النار التهمت الجانب الأيمن من شعر رأسها ومن ثم انطفأت، وجاء تقرير الطبيب الشرعي بوجود حالة اغتصاب حادة على الطفلة، وبها كسر في الرقبة، وطعنات في البطن. .
المجتمع ليس بخير حادثة الطفلة (أ) بولاية النيل الأبيض، في مدينة كوستي كانت خير مثال، حينما وجدت وحوش الإنسانية ضالتهم في الطفلة، وألقت شرطة تأمين مستشفى كوستي وإدارة المباحث الجنائية القبض على المتهم باغتصاب الطفلة، والتي تبلغ من العمر (8) سنوات، ووجدت الشرطة المتهم الذي حاول أن يخبئ نفسه في أحد أحياء المدينة الساهرة (كوستي)، وجدته الشرطة مخموراً، وروى والد الطفلة (إسماعيل أحمد) الحادثة البشعة، بأن المتهم هو جاره بالحي، واختطف ابنته تحت تهديد السلاح الأبيض من قارعة الطريق عند عودتها من المدرسة، وأدخلها منزله، موضحاً بأن المتهم حقن ابنته بحقنة مخدرة وقام بعمليته الوحشية، مضيفاً أن إحدى نساء الحي تعرفت على ابنته بعد أن فاقت من تأثير المخدر وخرجت إلى الشارع والدماء تملأ ملابسها وأحضرتها إلى المنزل.
من وحي التوحش أبشع جرائم اغتصاب الأطفال تحديداً، دونها ذلك الوحش الذي تسلل في برهة من الزمن إلى المنزل الخالي، وأهداه القدر طفلة لم تتجاوز \(11) شهراً من عمرها، فحينها تخلى الوحش عن آدميته، واحتضن الطفلة الصغيرة التي لا تدري في هذا الكوكب أمراً، واستدعى رغبته الحيوانية وتحول إلى ذئب بشري انتهك الطفلة دون أن يستعيد آدميته وهو ينهش في جسدها، وترك تلك اليافعة غارقة في دمائها ومستنقعه القذر، وبينما كانت الأم تضع أواني الشاي أمامها وتحزم الشاي في (كيس) صغير، وبالطبع على بالها فلذة كبدها التي تركتها وحيدة، وفي برهة من الزمن وعبر الاستشعار وفطنة الأمومة، أحست الأم أن ابنتها في خطر، وهرعت مسرعة إلى البيت وأمنيتها التي تترنم عليها في تلك اللحظة أن تكذب ما خطر ببالها، بيد أن الواقع كان مصداقاً لما ورد في مخيلتها، ووجدت صغيرتها ملقية على الأرض والدماء تحيط بها من كل الجوانب، فهرعت عليها على أمل أن تجدها على قيد الحياة رغم كل ما تراه العين، فوجدتها تتنفس فحينها هي الأخرى تنفست الصعداء، ولكن بذات السرعة التي أقدمت عليها، ركضت الأم على الأرض وعلمت أن طفلتها قد استباحها أحد وحوش الإنسانية، وصارت تصرخ وتصرخ، صرخة عنانها السماء، ويرتد صداها في كافة الأرجاء، بوجع كان جديراً بأن يوصل الدعوة للقاصي والداني، عبرت صرخت الأم التي لن تصرخ إلى لأمر جلل، وبالطبع صرختها تعبر عن طلبها للنجدة، ويحمل الجيران الطفلة وأمها إلى المستشفى ليأتي تقرير الطبيب (انفضاض غشاء بكارة طفلة لم يبلغ عمرها العام)، والقصة معروفة للجميع وهي التي احتلت الصدارة في كل صحف الخرطوم .مشرحة علم الاجتماعفجّر الخبير الاجتماعي الدكتور النور دفع الله برك الغضب وقال إن العرف السائد في العلاقات الاجتماعية في المجتمع السوداني، واحد من مداخل ارتكاب جرائم الاغتصاب، وقال الأسر السودانية بطبيعة الحال لا تستصحب في تعاملاتها مع بعضها البعض كل الاحتمالات، بل تتعامل بسجيتها وعدم التوجس ووضع المحاذير في التعامل، مشيراً إلى أن عنصر الثقة الزائدة في طبيعة الإنسان السوداني فتحت الباب على مصراعيه لضعاف النفوس والمنحرفين أخلاقياً ونفسياً، وكانت مدخلاً لهم لارتكاب فظائع الجرائم بحق الأبرياء.وتأسف النور خلال إفادته لـ(آخر لحظة) من أن الإحصائيات تؤكد بأن غالبية الجرائم التي ارتكبت خصوصاً اغتصاب الأطفال، تمت بواسطة الأقارب أو الجيران أو المعارف أو الأصدقاء، وهنا يرى النور مكمن الخطورة.
إعدام الجاني وعضد النور حديثه بإحدى السوابق العالقة بذهنه ومخيلة الكثير من الشعب السوداني، تلك السابق الشهيرة والمعروفة بقصة (طالبة الثانوي) والتي تحدث عنها محدثي متأسفاً من وقوع الجريمة من (خالها) أخ والدتها من جهة الأب، والتي تشير تفاصيلها إلى أن المجني عليها اعتادت الذهاب إلى منزل جدها من جهة الأم إلفاً وحباً، وكان الجاني حريصاً جداً على توصيلها إلى المدرسة بعربته، وفي أحد الأيام التي كانت تخبئ لها ما لا يخطر على بال أحد، وعدها الجاني بأنه سيوفر لها عدداً كبيراً من الكراسات والكتب على أن تأتي في المساء إلى منزل جدها لتستلم ما وعد به، وبالفعل حرصت على الزيارة وأخبرت والدتها بالزيارة، وبسرعة همت بالذهاب وانتعلت (سفنجة) لرغبتها في الذهاب مسرعة ومن ثم العودة، وعندما وصلت إلى المنزل دخلت على خالها فوجدت معه أحد معارفه الذي ما أن رآها هم بالخروج، في هذه اللحظة سمعت صوت الخال يناديها فدخلت عليه ودون تردد اعتدى عليها ولكي يخفي جريمته قام بتسديد طعنات قاتلة لها بواسطة (مفك) ثم حملها بالتعاون مع ابن شقيقته الأخرى الذى شاهد ارتكاب الجريمة، وتخلصا من الجثة في مجرى مياه، بعد فتح البلاغ عثرت الشرطة على الجثة بمنطقة طرفية بالمدينة وجاء في تقرير الطبيب الشرعي أن المجني عليها تعرضت لاعتداء جنسي ومن ثم القتل بتلقيها لطعنات عديدة في العنق، وبعد التحريات تم القبض على المتهم وإحالته إلى القضاء الذي نظر في أوراقه وأصدر قراراً بإعدام الجاني.
عمل مقصود اتفق الدكتور الريح النور أستاذ علم النفس مع دكتور النور دفع الله، متهماً الأسر السودانية بتعرض أطفالها لعملية الاغتصاب والتحرش، وذلك بتعبيد الطريق من خلال التعامل بحسن نية مع كل من تعرفه، وقال هذه الأسر لا تكترث لخطر ترك الأطفال في الشوارع دون رقابة أو مع أصدقائهم وأقربائهم وترك باب البيت موارباً دون إغلاقه بإحكام أثناء غيابهم، وطالب الريح خلال حديثه لـ(آخر لحظة) الأسر السودانية بترك الثقة الزائدة وتنبيه أطفالهم بعدم الاقتراب من أي شخص في غياب الأسرة، لافتاً إلى أن المجتمع السوداني جرت الكثير من المياه تحت جسره ولم يعد ذاك المجتمع السوداني المعهود.ويرى الريح أن الاعتداء الجنسي على الطفل عمل مقصود مع سبق الترصد ولتحقيقه يغري الجاني الطفل بدعوته لممارسة نشاط معين، ويبدأ الوحش بالاحتكاك رويداً رويداً ليتعرف على فريسته، مشيراً لوجود إفرازات سالبة تخلفها الظاهرة على المجني عليه مستقبلاً.عاهة نفسية يؤكد الدكتور الريح أن أسباب الجريمة تختلف من شخص لآخر، ويرجعها لدى البعض نتيجة لعاهة مرضية نفسية أو خلل في التنشئة نفسها، بحيث يجد المعتدي ضالته بلا مراقبة أو متابعة أسرية، أو نتيجة للثقة المفرطة.حاولت أن أستخرج شهادة براءة للأسر السودانية عن مسؤوليتها المباشرة في ارتكاب الجريمة، من خلال نقاش مستفيض مع الدكتور الريح النور الخبير النفسي، بيد أنه لم يترك لي الحجة ووضع الجميع في قفص الاتهام وأولهم الأسر السودانية، ومن زاوية أخرى فإن محدثي أرجع أسباب ارتكاب الجريمة لدافع الانتقام إما بسبب مشكلة مع أسرة المجني عليه يريد أن ينتقم منهم بهذه الكيفية لتحطيمهم نفسياً، أو بسبب أن الجاني كان قد وقع فريسة في صغره وتم اغتصابه وأراد أن ينتقم لنفسه، وهي لا تقل خطورة عن الأولى.
تحقيق: محمد داؤود
اخر لحظة